مسألة أصوليّة:
قال الإمام المبجّل أحمد بن حنبل رحمه الله وطيّب ثراه: "من ادّعى الإجماع فهو كاذب، لعلّ الناس اختلفوا، وما يدريه ولم ينتَه إليه؟"
لا يفهم من كلام الإمام رحمه الله، أنّه ممّن ينكر الإجماع وحجيّته، فقد روي عنه -وهو المشهور- تصريحه بالإجماع في كثير من المواطن منها:
قال عبدالله ابن الإمام أحمد، في مسائله التي رواها عن أبيه (قلت لأبي: إذا لم يكن عن النبي في ذلك شيء مشروع يخبر فيه عن خصوص أو عموم؟ قال أبي: ينظر ما عمل به الصحابة، فيكون ذلك معنى الآية، فإن اختلفوا: ينظر أي القولين أشبه بقول رسول الله ﷺ، يكون العمل عليه). انتهى. وهذا إسنادٌ صحيح بفضل الله تعالى، وهو صريح في أن الإمام أحمد قطع وجزم بأن ما بلغنا من عمل الصحابة يكون هو معنى الآية، ولا يجوز الخروج عمّا بلغنا من عملهم، ويتعيّن تفسير الآية به والعمل بما يترتب علىٰ ذلك من أحكام شرعيّة.
وهذا القاضي أبو يعلى الفراء: وهو إمام الحنابلة في عصره، وكان عالم عصره في الأصول والفروع، قال في كتابه "العدة في أصول الفقه": الإجماع حجة مقطوع عليه، يجب المصير إليه، وتحرم مخالفته.
وجاء في مسائل داود عن الإمام أحمد: سمعت أحمد قيل له: إن فلانًا قال: قراءة فاتحة الكتاب مخصوص من قوله: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا فقال: عمن يقول هذا؟ أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة.
وقال الإمام ابن تيميّة: (فإنه –أي الإمام أحمد- قال في القراءة خلف الإمام: أدعي الإجماع في نزول الآية، وفي عدم الوجوب في صلاة الجهر). انتهى
قلت: وهذا إسناد صحيح بفضل الله تعالى، وهو صريح في أن الإمام أحمد يحتج بالإجماع، وينكر علىٰ من اخترع قولًا يخالف ما نقل عن الذين سبقوه.
ثم إن الإمام أحمد أراد بقوله نقض دعوة بشر المريسي والأصم، قال ابن رجب: وأما ما روى من قول الإمام: من ادعى الإجماع فقد كذب، فهو إنما قال إنكارًا علىٰ فقهاء المعتزلة الذي يدعون إجماع الناس علىٰ ما يقولونه، وكانوا أقلّ الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين.
قلت: بل لم يحيطوا علمًا بأقوال أبي حنيفة وصحبه، فضلًا أن يعلموا مسألة نقلت عن الصحابة رضي الله عنهم، بل لم يكونوا أهلَ علم، يضربون كلام الله المحكم، ويتبعون المتشابه منه، وقدموا المعقول علىٰ المنقول حتى هلكوا وقطع الله دابرهم.
وقد يراد من كلام الإمام أحمد استبعاد هذا القول، لانفراد هؤلاء الرّهط بما عليه الناس، وهذا يدل علىٰ كذبهم، ولو كان قولهم مجمع عليه لشتهر وانتشر، ولكن ما زعموا به الإجماع لم يأتِ به أحد من قبل، إلا المريسي وثمامة والأصم، قال محمد بن الحسن البدخشي في شرحه علىٰ منهاح الوصول في علم الأصول: وأما قول أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب: كأنه استبعد الإطلاع عليه ممن يدعيه دون أن يعلمه غيره.
ولا يأتي مبتدئ في الطلب يقول إن أحمد ينكر الإجماع ولا يحتج به، فهذا ممن رفع نفسه مكانًا عليًا وهو ما زال علىٰ سفح الجبل.