4- كان الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر قد أنشد، ربما قبل ثلاثين سنة أو يزيد، قصيدته البديعة التي يقول فيها:
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة..
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة..
صفق إبليس لها مندهشاً وباعكم فنونه..
وقال: إني راحل.. ما عاد لي دور هنا.. دوري أنا، أنتم ستلعبونه!
أكلما نام العدو بينكم رحتم تقَرِّعونه؟!
وغاية الخشونة أن تهتفوا: "قم يا صلاح الدين".. حتى اشتكى مرقده من تحته العفونة!
كم مرة في العام توقظونه؟ أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة؟!
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه..
لأنه لو قام حقاً بينكم.. فسوف تقتلونه!!!
نعم.. لو كان صلاح الدين قد قام لكان مصيره كمصير السنوار، أو حازم أبو إسماعيل، أو إسماعيل هنية، أو غيرهم ممن امتلأت بهم السجون والمنافي والقبور!!
فلو أننا ذهبنا نقرأ التاريخ ونطالع سيرة صلاح الدين، ثم ارتددنا بعدها فجئنا ننقد أنفسنا وتجربتنا ونتأمل في واقعنا لكان لزاماً علينا أن نقول: ما بلغ صلاح الدين ما بلغ من التحرير والنصر إلا بعد أن انتهى من الخونة الذين كانوا يطعنونه في الظهر، فما استقام لصلاح الدين تحرير بيت المقدس إلا حين كسر الأمراء الذين حكموا بلاد الشام وكانوا حلفاء للصليبيين وعقبة في طريق التحرير!
ولقد حاول صلاح الدين أن يتجنب طريق كسرهم، وأن يتألفهم، وأن يعدهم ويمنيهم ويعظهم ويرجيهم، فما استطاع.. هذا وهو المعروف بأنه المثال في الرحمة واللين والعفو، حتى لقد أخذ عليه بعض المؤرخين إفراطه في العفو والصفح! فلئن كان هذا المغالي في العفو والصفح قد عجز عن أن يجد طريقاً لتحرير بيت المقدس قبل أن يكسر الخونة الذين ثووا في ظهره، فكيف بغيره؟!
ستظل البطولة التي تتفجر بها أمتنا محبوسة طالما بقي الخونة، فإن تفجرت وتدفقت رغماً عنهم فستبقى مطاردة لتنتهي مغدورة مذبوحة!
وهذا هو الطريق..
هذا هو الطريق الذي تهدي إليه بطولة السنوار الشهيد..
5- لما رجعت إلى البيت بعد انتهاء مؤتمر الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، وقد كنتُ ممتلئاً بأبيات فؤاد الحميري عن "السنوارمان"، وجدتني أمام قصيدة أخرى طازجة؛ فعرفت أنه بينما كان صاحبنا الشاعر اليمني في إنشاده، أخرج الشاعر الفلسطيني المعروف تميم البرغوثي قصيدته الأعظم في رثاء السنوار، وتلك قصيدة من بديع الكلام والنظم، وتحتاج وقفات ووقفات، ولا قليل عليها إذا أقيمت لها مجالس الشروح والحواشي، أتركها هنا، تحيناً لفرصة قادمة إن شاء الله..
قال تميم:
ألا كم كريم عده الدهر مجرما .. فلما قضى، صلى عليه وسلما
أبو القاسم المنفي عن دار أهله .. وموسى بن عمران وعيسى بن مريما
أتعرف دينا لم يُسَمَّ جريمةً .. إذا ضبط القاضي بها المرءَ أُعْدِما
صليبٌ، وقتل في الفراش، وعسكر .. بمصر، وأخدود بنجران أضرما
وطفل وديع بين أحضان أمه .. يراوغ جيشا في البلاد عرمرما
وقلَّ نبيٌّ لم تلاحقه شرطة .. وأشباهها في كل دهر تصرما
فمن جوهر التوحيد نفي ألوهة الـ .. ملوك، لذا لا زال دينا محرما
وفرعون والنمرود لم يتغيرا .. بقرنيْن أو ربطات عنق تهندما
ونحن -لعمري- نحن منذ بداية الـ .. خليقة، يا أحبابنا، وهما هما
مُسَيَّرة في شرفة البيت صادفت .. جريحا وحيدا يكتسي شطره دما
قد انقطعت يمناه وارتض رأسه .. فشدَّ ضمادا دونه وتعمما
وأمسك باليسرى عصا كي يردها .. فكانت ذبابا كلما ذُبَّ حَوَّما
وما أرسلت إلا لأن كتيبة .. من الجند خافت نصف بيت مهدما
وقد وجدوه جالسا في انتظاره .. أظن -ومن تأخيرهم متبرما
ولو صوَّرت تحت اللثام لصوَّرت .. فتى ساخرا ردَّ العبوس تبسما
تلثم كي لا يعرفوه لأنهم .. إذا عرفوه فضَّلوا الأسر ربما
ولو أسروه، قايضوه بعمره .. لذاك رأى خوض المنية أحزما
فلم يتلثم كي يصون حياته .. ولكن لزهد في الحياة تلثما
فقل في قناع لم يلف لسلامة .. ولكن شعارا في الحروب ومعلما
وقل في جموع أحجمت خوف واحد .. وفي جالس نحو المشاة تقدما
أتى كل شيء كي يسوء عدوه .. ولم يأت شيئا في الحياة ليسلما
رمى بالعصا جيش العدو وصية .. لمن عنده غير العصي وما رمى
رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها .. ومن في يديه العسكر المجر أحجما
غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها .. لكل فتى يحمي سواه وما احتمى
جلوسا على الكرسي مثل خليفة .. يبايعه أهلوه في الأرض والسما
فذلك عرش يرتضيه ذو النهى .. وذاك إمام قبلة السعد يمّما
هنا يصبح الإنسان دينا مجردا .. ويصبح دين الناس شخصا مجسما
أتعرف إن الموت راوية الفتى .. يقول لحقٍّ أم لباطل انتمى
يعيش الفتى مهما تكلم ساكتا .. فإن مات أفضى موته فتكلما