2- والحمد لله كثيراً، فقد جُمِعت في أمتنا مادة البطولة، حتى كأن أمتنا نبع من البطولة المتفجرة المتدفقة، أبناؤها يقاتلون في الساحات قتالاً غير مسبوق ولا مشهود، قتال من لا يملكون شيئاً في مواجهة من يملكون كل شيء!!
ماذا يكون معنى البطولة ومعنى الشجاعة ومعنى البسالة ومعنى الإقدام إذا لم يكن هو مشاهد اقتحام المقاتلين المحاصرين منذ سبع عشرة سنة في القطاع المعزول لأقوى دولة مدججة بالسلاح، وإعطائها صفعة مدوية انكسرت فيها سُمْعتها الأمنية وتضعضعت فيها هيبتها العسكرية؟!
كيف يمكن أن نصف البطولة والشجاعة والإقدام والبسالة إذا لم نستعمل لذلك مشاهد الحافي الذي يخرج من فتحة نفق ليضع عبوة ناسفة على الدبابة الأكثر تسليحاً وتدريعاً في تاريخ المدرعات؟! أو ذلك الذي قُطِعت ذراعه فكان يرمي بذراعه الثانية قذائف الهاون على عدوه، أو ذلك الذي سقط أمامه صاحبه الأول ثم الثاني فالتقط السلاح الوحيد ليواصل المعركة المحسومة بلا تردد؟!!
كيف نصف معنى الصبر والثبات ورباطة الجأش إذا لم نستعمل مشاهد أهل غزة من الشيوخ والنساء والصبيان وهم يعيشون المصائب الكبرى التي ينهار الناس لأقل من عشر معشار معشارها؟! ولئن نسيت فلست أنسى طبيبة تابعة لمنظمة غربية جاءت إلى غزة بعد جولة حربية فدُهِشت لأنها لم تر في غزة ما تراه في الغرب من مظاهر الانهيار والصدمة بعد الحرب!! فصارت تتعجب وتستغرب وقد ضرب أهل غزة عقيدتها العلمية في الصميم، فلم تعد تدري: هل هؤلاء من البشر؟ أم أن العلم الذي درسته والتجربة التي خاضتها كانت خرافة وزيفاً؟!!
ثم انظر وتأمل.. كيف اجتمع المشهدان معًا في البقعة الواحدة!!
انظر إلى الجند المدجج بالسلاح، الذي يلقي بأطنان الحميم من الطائرات البعيدة، ويستعمل أحدث التقنيات ليخوض بها الحرب، ثم هو يضرب المثل في قذارة الأخلاق، وفي التمتع بقتل النساء والأطفال والحيوانات، وبهدم المساجد والمستشفيات، وإذا شكَّ في وجود عدو له في مكان نفَّذ ضربة تقتل حوله مئات من البشر، ثم إذا اقتحم بيتاً استخرج ملابس نسائه فلبسها الجنود وصَوَّروا أنفسهم بها؟!! ثم انظر إلى وليِّهم الغربي كيف لا يتوقف عن إمدادهم ودعمهم، وهو الذي أسال أطناناً من الحبر وأكواماً من الأوراق في التنظير لحقوق الإنسان والحرب والأسرى... إلخ!
3- ولقد شاء الله تعالى أن يجتمع في مشهد استشهاد أبي إبراهيم يحيى السنوار هذا كله: البطولة الإسلامية المتدفقة حتى الرمق الأخير، والقذارة الصهيونية الصليبية الغربية المتلمظة الحقودة حتى الانتقام الأخير:
. مقاتل يقاتل فوق ظهر الأرض، بنفسه!
. أشعث أغبر باذل كل جهده، كما يحب ربنا ويرضى.
. وحيد بعد تفرق صحبه، أو هلاكهم معه أو دونه!
. صامد صلب حتى اللحظة الأخيرة! لم يجد إلا العصا فقذف بها يقاتل!
. ملثم حَرَمَ العدوَّ أن يتعرف عليه لئلا يُعتقل فتكون مذلة ومهانة له، وتكون مكسباً ومفخرة للعدو!
. جريح ينزف، لكنه ربط ذراعه الجريح بفمه ويده الأخرى، بحبل ليحول دون استمرار النزيف!
. لا هو في نفق (وليس عيباً لو كان) ولا متدرعاً بالأسرى (وليس عيباً لو فعل).
. يصطحب عدته في القتال: سلاح.. ومعها عدته الروحية: كتاب في الأدعية، ورقة في الأذكار، مسبحته.. وحبَّاتٌ يستعملها الناس لتعطير الفم، فلا تدري أكانت له لذلك الغرض فتكون دليلاً على نظافة وطيب، أم كانت له غذاء ضعيفاً لم يجد سواه، إذ هو مقاتل محاصر؟!
وأما عدوُّ، فظهر على هذا النحو:
. مجرم يضرب بقذيفة الدبابة مقاتلاً جريحاً ليس بيده إلا العصا!
. جبان يتخوف من مقاتل واحد فيرسل بطائرة مسيرة تستكشف شأنه!
. مرعوب قضى يوماً قبل أن يجرؤ على اقتحام المنزل المتهدم فوق المقاتل الوحيد الذي فرغت جعبته!
. خبيث دنيء سرق الجثة ثم هدم الدار!
وقد شاء ربك مزيد فضح لهذا العدو ومزيد بث لكرامة السنوار، إذ أذيع هذا كله على يد العدو نفسه، ولا أحد يدري، لعل الشهيد كانت له مناقب أخرى ظاهرة لكن العدو حجبها وكتمها!!