المقال الثاني: في الكلام عن نسبة كتاب "كنز الحقائق في كشف الدقائق" للشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي.
استكمالًا لما بدأتُه قبل سنة في تحقيق نسبة بعض الكتب التي طُبعت منسوبة للشيخ الأكبر.. أتكلَّمُ في هذا المقال عن كتاب "كنز الحقائق"، وكان المقال الأول في بيان نسبة كتاب "الدر المكنون المشحون بالفنون"، وقد بيَّنتُ فيه بما يقطع الشكَّ باليقين أنَّ الكتاب ليس من تأليف الشيخ الأكبر محيي الدين، وأنَّه من تأليف الشيخ أحمد بن عمر العلواني الحمامي الشافعي (ت: 1017هـ)، وذكرتُ في المقال المشار إليه مقدمات مهمَّات لا بُدَّ أن تكون من بال القارئ أثناء قراءتِه لهذا المقال، وسأضعُ رابطَه في التعليقات.
أقول: كتاب "كنز الحقائق في كشف الدقائق" مِنَ الكتب المشكوك في نسبتِها للشيخ ابن العربي؛ وذلك من وجوه:
أولًا: لم يذكرْه الشيخ ابن العربي في "الفِهرِست" ولا في "الإجازة"، ولا في أيِّ كتابٍ من كتبِه الثابتة النسبةِ إليه؛ بل ولا فيما نُحلَ عليه ولم تصحَّ نسبتُه إليه.
ثانيًا: لم يذكره أحدٌ من تلامذة الشيخ ابن العربي المباشرين، ولا غيرهم ممن جاء بعدهم من أئمة العرفان منسوبًا للشيخ ابن العربي.
ثالثًا: لم يذكرْه أحدٌ من المؤرِّخين وأصحاب المعاجم والأثبات منسوبًا للشيخ ابن العربي، ولم ينقل أحدٌ من نصوصِه ناسبًا الكتابَ إليه.
رابعًا: تأخُّرُ تاريخ النسخة الخطية التي وصلتنا لهذا الكتاب منسوبًا للشيخ ابن العربي (مكتبة LALELI، رقم 1482)؛ إذ إنها مكتوبة سنة (1112هـ)، ولم يَذكُر ناسخها أنه نقلها عن نسخة المؤلِّف، أو عن نسخة عليها خطُّه، أو متصلة به، أو فيها ما يشيرُ أنها للشيخ ابن العربي، بل لم يَذكُرِ الأصلَ الذي نقل منه نسخته التي كتبها!
خامسًا: تشكيك الأستاذ الدكتور عثمان يحيى رحمه الله تعالى في نسبة الكتاب للشيخ ابن العربي؛ حيث قال في كتابِه "مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها" (ص 522، ترجمة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب حفظه الله تعالى): "أفكار المخطوط وأسلوبه بعيدان عن أفكار ابن عربي"اهـ.
وليس في هذا الكتاب ما يثبتُ نسبته للشيخ ابن العربي سِوى ما جاء على طُرَّتِه من نسبتِه إليه!
ولا يقال في مثل هذا: إنَّ المثبِتَ مقدَّمٌ على النافي؛ لأنَّ هذه القاعدة ليست على إطلاقها، بل هي مقيَّدة بشروطٍ مذكورة في محلِّها، ومنها أنه لا يُعمَلُ بها إلا إذا جاء المثبِتُ بما يدلُّ على ثبوت دعواه، وليس في كتابةِ اسم الشيخ ابن العربي على طُرَّة هذا المخطوط ما يدلُّ على الدعوى؛ خصوصًا مع ما قامت عليه الأدلَّة واشتهر أنَّ من أكثر العلماء الذين نُحِلت على اسمهم المؤلَّفات قبل ظهور الطباعة.. هو الشيخ ابن العربي، وقد ذكرتُ ذلك ببعض بسط مع الأمثلة في مقدِّمة تحقيق نسبة كتاب "الدر المكنون المشحون بالفنون".
وقد طُبع كتاب "كنز الحقائق في كشف الدقائق" أول مرة سنة( 2022م)، ولم يأتِ محقِّقُه في مقدِّمات تحقيق الكتاب بما يثبتُ نسبةَ الكتاب للشيخ ابن العربي، بل حتى لم يَتنبَّه لتشكيك الدكتور عثمان يحيى في نسبة الكتاب للشيخ ابن العربي، واكتفى ببضعة أسطرٍ للتدليل على النسبة؛ فقال: (وقد خفي هذا الكنز على القراء قرونًا من الزمان، ولعلَّه من أوائل مؤلَّفاتِه؛ إذ يَذكرُ فيه أنَّه خَدَمَ عددًا من أهل العرفان وتلقى من علومهم واستفادَ من أذواقهم، وذلك لا يكون إلا في البدايات، وقد ذَكَرَ الشيخُ الأكبر رضي الله عنه في غير موضعٍ أنَّه كان يجنحُ للسترِ في بداياتِه مخافةَ الشهرة حتى نسبوا بعض كتبِه إلى غيره، وقد كان إنتاجه رضي الله عنه غزيرًا حتى أنه في إجازته للملك المظفر وفي فهرسه أنَّ الحال لا يسع أن يتذكَّر كلَّ ما وضَعَ من الكتب والرسائل).
هذا ما قالَه محقِّق الكتاب في إثباتِ نسبتِه للشيخ ابن العربي!!!
وما استدلَّ به على أنَّ هذا الكتاب وغيره قد يكون من ضمن الكتب التي ألَّفها الشيخ ابن العربي ونسي أن يذكرها في "الفِهرِست" و "الإجازة" = قد رددتُه وبيَّنتُه في مقدمة تحقيق نسبة كتاب "الدر المكنون المشحون بالفنون" فلينظر.
هذا وبناء على ما تقدَّم من كلام.. تبيَّن أنَّ كتاب "كنز الحقائق" من الكتب المشكوك في نسبتِها للشيخ ابن العربي، إلا أنني بفضل الله تعالى قد وقفتُ على ما يقطع بنفي نسبته للشيخ الأكبر؛ وذلك ببيان المؤلِّف الحقيقيِّ للكتاب، ولن أصرِّحَ باسمه في هذا المقال؛ بل في مقال آخرَ سينشرُ قريبًا إن شاء الله تعالى في مجلَّةٍ محكَّمةٍ، أسألُ اللهَ تعالى المعونةَ والتيسير.
وأخيرًا أقول: تحقيقُ إثبات نسبة الكتاب لمؤلِّفه ونفيِه عن الشيخ الأكبر محيي الدين.. لا يلزم منه التزهيد في اقتنائه وقراءته؛ إذ لا يغني كتاب عن كتاب، والحمد لله رب العالمين.
وكتب
أحمد بن سهيل المشهور
https://www.facebook.com/share/tMhbi5rXBxKaBRbE/?mibextid=oFDknk