حُكم على آذار بشهر اعتقال بسبب بعض تهم وُجّهت لها في المحكمة، ولم تدافع عن نفسها، التقت ببشر ، سُمح لهما أن يجلسا معًا.. كان قلب بِشر يخفق بقوّة كطير حبيس في قفصه الصدريّ..عيونه كانت تحاول التركيز في عيني آذار اللتين كانتا تهربان.. تبادلا الحديث شرحت له الموقف، وتقبّل الأمر.. - أنا مستعد للتضحية بكل شيء لأجل أن نخرج من هنا..يقلقني ابعادك عني، ما رأيك..نتنازل؟ - كلا، لا نستطيع فعل ذلك الآن لأني محتجزة -كان ردُّها صادمًا- يبدو أن علينا البقاء بعض الوقت..أمسكت بيده، طبطبت عليها.. "سنتجاوز..لا تقلق" نبّههما مسؤول المكان أن الوقت انتهى، وأن على بِشر المغادرة، ثم ناوله ورقة بمواعيد الزيارات المسموحة. تعانق بشر وآذار، والضيق يأكل قلبيهما..وافترقا مجددًا..
عاد بشر لمنزله، ليكتشف أن الحياة ستمضي من الغد كأن شيئًا لم يكن، هي لم تتوقف بتوقفه أصلا.. يؤلمه بعد آذار..أخذ ثيابها وتركها إلى جواره ليطمئن.. ليطمئن؟ منذ متى لم يصلي صلاة حقيقية "يطمئن بها"!.. متى آخر مرة دعا فيها من قلبه وتوجّه لله بصدق؟ متى آخر مرة دندن فيها بالآيات، وعاش في معانيها؟ هل كان يعبد الله على حرف؟ ثم ما إن غابت آذار ترك كل شيء من يديه وتوجّه بكلّه إلى قِبلة أُخرى! من أين يبدأ؟
قام فزعاً..ذهب للمسجد.. في طريقه، لمح عجوزًا مُعدمًا يجلس في قارعة الطريق، رمقه بشيءٍ من الود..نزل إلى حيث يجلس، أخرج كل ما في جيوبه.. - سامحني يا عم..لا أملك غيرها.. كان يعلم أن الصدقة تُطفئ غضب الله.. ابتسم الرجل باندهاش بعدما شاهد القطع النقدية..توكأ على عكازه بفرح، انهمرت دموعه بينما يطبطب على كتف بِشر باندفاع..ثم قال له: " لله دُرّ التائبين" وغاب عن الأنظار.. دخل بشر المسجد..كان خاليًا إلا من بعض المُصلّين.. ونفس بِشر كانت خالية إلا من بعض الشوائب.. قال: الله أكبر.. ولأول مرة..كان الله أكبر في نفسه من كل شيء.. ثارت المعاني في صدره فبكى..بكى وهو يستشعر لأول مرة فكرة دُعاء "المضطر" وينتظر بلهفة من الله قوله "أمّن يُجيب" و "يكشف السوء".. شاهده الرجل الذي التجأ إليه في أول مرة.. - بِشر؟ - أهلًا أيها الغريب.. - ههه..ما غريب إلا الشيطان..سأساعدك بطريقة للخلاص.. أراد بشر أن يقوم من مكانه متحمسًا كما جرت العادة..إلا أنه تنبّه.. - لا نافع ولا ضارّ إلا الله.. ابتسم الرجل..أدرك أن بِشر تجاوز هذا الاختبار.. ---- - صباح الخير د.آذار..كيف حالك؟ - صباح النور دكتور..بخير الحمدلله - كيف تَرين الجلسات التي نعقدها معًا؟ - مفيدة..أشعر بتحسّن لولا توعّك صحتي الجسدية.. - سلامات..لعل الأمور تنتهي قريبًا.. - يا رب ^^ - هاه..أخبريني..قمتِ بالمهمات التي عليكِ أداؤها؟ - أجل..أفرغت الكثير مما في نفسي على ورق..أشعر بارتياح.. - جيّد..آخر مرة تحدّثنا عن إسقاط الناس من حسابك..كيف تجري الأمور..؟ - أتذكر..بصراحة أظنّ الأمر صعب على شخص مثلي..لكنَّني أحاول.. - لديك مهمّة..ترينَ هذا الزيّ خلفك؟ - أجل - سترتدينه..وستكونين غدًا في خدمة امرأة مسنّة..سيعلم الكثيرون ذلك.. - أناا..سأعمل كخادمة؟ - ترينَ هذه الـ(أنا)..نريدُ أن نكسِر كبرها، ونُسقط الناس من حسابها حقًا.. صمتت.. ---- دُعي بشر على عشاء عند الرجل الغريب، مستر غريب كما يسميه بشر، ولا يفهم لماذا لا يحمل اسمًا! شاهد شمس مرة أخرى..فأسرّها في نفسه.. تسرق قلبه هذه الشقية..أمسك بيدها لأول مرة..يالها من طفلة لطيفة..وعلى ما يبدو..هي أحبّته أيضًا.. سأل: - لماذا آويتها؟ - أنا صاحب مؤسسة هُنا..تُساعد على احتضان الأطفال مجهولي النسب.. - ماذا تقصد بالاحتضان؟ - تولِّي رعاية طفل مجهول النسب، دون نسبه إلى المُحتَضِن، على أن يكون الأبوان لم يُنجبا، ويتم إرضاع الطفل من أحد أقارب الزوج أو أقارب الزوجة..حسب جنسه. ابتسم بِشر..لمعت في ذهنه أفكار كثيرة! ----- اتبعت آذار تعليمات الطبيب، سارت على الخطة، ونفّذت مُعظم المهمّات..تُعالِج نفسها، تضبط أفكارها الآن، تستطيع أن تعقل ما يحدث من حولها، تُنفّس وتشخّص أمور قلبها وحدها، تزكّي النفس بالتخلية والتحلية! كم تبدو الحياة الآن أكثر رحابة! بِشر سيزور آذار اليوم..يحمل لها اقتراحًا..نبضه مرتفع..ابتسامته عريضة..وروحه ترفرف. - صباح الخير.."قال بِشر" - صباح النور.. احتضن بِشر آذار بمرَح.. - آذار..أريد أن أُخبرك بشيء..شيء مهم جدًا.. - أخبرني بأشياء هههه - اسمعي..لو سألتُك..هكذا دون مقدمات..لأني لا أجيدها.. بـ..ما رأيك بأن تُصبحي ماما..توافقين؟ - انتفض جسدها في مكانه..- - أصبح ماما؟..كيف؟ - نحتضن طفلًا! صمتت لوهلة.. الحمدلله أنها عالجت أمور الـ(أنا) والكبر، وإلا ربما لرفضت، كيف تحتضن طفلًا مجهول نسب! الحمدلله أسقطت الناس من حسابها..وإلا ما كانت لتنظر للأمر أبدًا من زاوية رؤوفة..
- نستطيع فعل ذلك؟ -سألَتْ- - نستطيع!..تنطبق علينا شُروطهم هنا..