اسكُتْ، لا شيخَ لك!
كان الأخذُ عن الشّيوخِ دأبَ أهلِ العِلم السّالِفِين، وقد تشدَّدوا في وزنِ النّاسِ بذلك، حَتّى جَرَحُوا الرَّجُلَ بأنّه "لا شَيْخَ له"، وأنّ عِلمَه مِن الصُّحُف، وإن بَلَغَ في العِلم ما بَلَغ!
ومِن ذلك ما جاء في ترجمة أبي جعفرٍ الدّاوديّ المالكيّ (ت: 402 هـ)، مِن قول القاضي عِياض:
«كان فقيهًا فاضلًا متفنِّنًا مؤلِّفًا مُجِيدًا، له حِفظٌ مِن اللِّسانِ والحديثِ والنّظر...
وبلغَني أنّه كان يُنكِرُ على مُعاصِرِيهِ مِن عُلماءِ القَيْرَوان سُكناهم في مَملكةِ بَني عُبَيد، وبقاءَهم بينَ أظهُرِهم، وأنّه كتبَ إليهم مَرّةً بذلك، فأجابوه: (اسكُتْ، لا شيخَ لكَ)، أيْ: لأنّ دَرْسَهُ كانَ وحدَه، ولم يَتفقّه في أكثرِ عِلمِه عندَ إمامٍ مشهور، وإنّما وَصَلَ إلى ما وَصَلَ بإدراكه.
ويُشيرون أنّه لو كان له شيخٌ يُفقِّهُه حقيقةَ الفِقه، لعَلِمَ أنّ بقاءهم مع مَن هناك مِن عامّة المسلمين تثبيتٌ لهم على الإسلام، وبقيّةٌ صالحةٌ للإيمان... فرجَّحوا خيرَ الشّرّينِ.»
«ترتيب المَدارِك» (7/ 103)
وفي تَرجمةِ مُوفَّق الدِّين البَحرانيّ الأديب النّحويّ (ت: 885 هـ)، قال الحافظ السّيوطيّ:
«وكان حَسَنَ الظّنِّ بالله، وأكَبَّ على عِلمِ النّحوِ فبلغَ منه الغاية، وجاوزَ النِّهاية، وصارَ فيه آية!
ولم يكن أخَذَه عن إمام، إنّما كان يَحُلُّ مُشْكِلَهُ بنفسِه، ويُراجِعُ في غامضِه صادقَ حِسِّه.حتّى جَرَى بينه وبينَ عُمَرَ بنِ الشِّحْنةِ مُناظَرة، فظَهَرَ مُوَفَّقُ الدِّين هذا، فلم يكن لابن الشِّحنةِ قرارٌ إلّا أن قال: أنتَ صحفيّ! فلَحِقَ موفَّقُ الدِّين مكِّيَّ بنَ ريان، فقرأ عليه أصولَ ابنِ السَّرّاج، وكثيرًا مِن كتاب سيبويه، ولمْ يَفعلْ ذلك حاجةً به إلى إفهام، وإنّما أرادَ أن يَنتمِيَ على عاداتِهم في ذلك إلى إمام.
وكان مكِّيٌّ كثيرًا ما يُراجِعُه في المسائلِ المُشكِلة، والمواضعِ المُعضِلة، ويَرجِعُ إليه في أجوبةِ ما يُورَدُ عليه.»
«بغية الوُعاة» (1/ 286)
#معالم