الوداع الأخير :
الفصل الأول :
مدخل :
كانتِ الساعة قد نصبت عقاربها على الثانية عشر بعد منتصف الليل، ممرات المشفى خالية تماماً، كنت جالسة هناك على كراسي الانتظار على بعد من وحدة العناية المُكثفة، خرج الطبيب وأشار إليّ لألحق به إلى غرفة سلوى، لا أصوات في الأرجاء سوى بكاء طفل قادم من عنبر الأطفال، يبدو أن المرض قد تمكن منه ولم يترك جفنيه ليعانقا بعضهما، الصوت الوحيد هنا صوت قدماي أجرهما جراً وكأن بهما أثقال حديد وكأنني مُقادة إلى مصيري، في تلك الغرفة فقط يمكن الحكم عليّ بالحياة أو الاعدام، أو هكذا ظننت.
فتح الطبيب الباب بعد أن أجبرني على تلبُّس الأقنعة والأكياس الطبية وسمح لي بعد ثلاثة أيام من الحرمان بإلقاء نظرة عليها.
جلستُ على السرير بالقرب من قدميها وتحسستها وتلمستُ أصابعها، أردتُ أن أُشبع يدي من تفاصيلها، أردتُ أن أكيد المرض والشوق، وأخبرهم أنني الآن قريبة جداً منها لا يفصلنا سوى نومها العميق وغيبوبتها الطويلة، تسارعت دقاتُ قلبي وتولَّد داخلي شعور المحبة القديمة وتهافتت على ذاكرتي الضائعة ذكريات قدوم سلوى لهذا العالم. ليلة مقمرة بدا فيها البدر ظاهراً واعتلى صفحة السماء يتباهى بكونه يزين سماء القرية في هذه الليلة، وخرجتْ هي في فجر ذلك اليوم لتقول للقمر لا تُرهق نفسك هأنذا قدمت على هذا العالم وصرفت أعينهم عنك وأنرتُ المنزل وجلبت الخير ونزلت معي رحمات الله على الجميع، أتذكرك يا ابنتي، أتذكرين؟ أول أيام المدرسة وأنا أقتادك إلى المعلم لأخبره أنك أصغر من جميع الصف لكنك نبيهة ذكية، أتذكرك حين تخرجتي من الثانوية وعملتي معلمة في أطراف البلاد، سِرتِ في دروب كثيرة وعلمتك الحياة الكثير من الدروس على هيئة بشر وابتلاءات وأمراض، لقد قاسيتِ الكثير يا سلوى، لقد كانت جميع أنّاتك محسوسة في قلبي، أتذكرك عروساً تزينت وسط قريناتها وقد ازدانت بحسنها وشابهت أقمار السماء حينها تذكرت قول الشاعر في ابنته :
عقيلةُ أترابٍ توالينَ حولها كما دارَ بالبدرِ النجومُ الزوَاهر
أتذكرين أول حبك لحسن ذلك المهندس الزراعي الذي اقتطف زهرة منزلنا اليانعة فرعاها ووالاها بالسُّقيا والاهتمام، هو الآن يقفُ بالخارج ذهب ليأتي بالأولاد، جميعهم يريدون لقائك وتقبيل قدميك، جميعهم يريدون تلك الجنة أن تحيا لا أن تتوراى بالثرى، يريدون باب الخير والثواب ببِركِ، لا يريدون انقطاع كرم اللّٰه الموصول بك.
بين يديّ أصابعك التي واليتها بالعناية والاهتمام وأطرافك الغضة منذ الطفولة إلى هذه اللحظة، وفي ذاكرتي كل خطوة سرتها وكل عثرةٍ مررتِ بها، جدائلك السوداء ووجهك المستدير وابتسامتك الجميلة، هأنتِ ذي عليلةٌ طريحة الفراش، هاهو قلبي يتفطَّر كلما دقّ جهاز الانذار بانخفاض ضغطك، هأنا واقفة أمامك وجسدك مزروع بالأجهزة وفي دمك محاليل كثيرة، اشتقتك واشتقت لطاولة الغداء يوم الجمعة واشتقت لتجمعنا معاً وضحكتك يا ابنتي، ألم تعلمي أنني اشتريتُ آنية جديدة، قلت لنفسي لا أخرجها حتى تخرج سلوى ونأكل سوياً على طاولة واحدة، أما آن الأوان يا ابنتي؟ أما آن الأوان لتخرجي من سُباتك وتقومي مهرولة نحوي؟ أما آن لهذه القدمين أن تسير إلى منزلها وتتحرق لوضع الخضاب؟ أما آن لخصلات شعرك المُتمردة أن تترتب؟
#يتبع
#دعاء_عبدالمنعم