غزّة ليست منسيّة؛ هي الحكاية التي تختبئ في دمائنا، هي الوجع الذي لا يفارق ضميرنا. كيف ننساها؟ وهي تصرخ بصمت جدرانها، وتبكي بحجارة أزقتها، تئنّ تحت سماءٍ لم تعد تشفق عليها! غزّة؛ جرحها ليس كأيّ جرح، نزيفها لا يتوقف، ولكنّها تأبى الانكسار. كل طلقةٍ، كل غارةٍ، تصنع من وجعها صمودًا، ومن دمها أغنية للحياة. غزّة؛ هم لم ينسوكِ، ولكنّهم تجاهلوكِ، خشية أن تعري ضعفهم أمام قوتكِ، فأنتِ الحرّة، وأنتِ التي تعلّمين العالم أن الكرامة أثمن من الحياة.
آخر نوبة رباط: في ميزناز، كانت تلك النوبة الأخيرة وكأنّها نبضة وداعٍ لا تُنسى. أذكر كل لحظةٍ فيها، كل نسمة بردٍ لامست وجهي، وكل همسة صمتٍ كانت تُخبرني أن هناك ما سيأتي. ثمّ جاءت المعركة، فاصطبغت الأرض بلونٍ مختلف، وكنت أعلم أنّني سأعود بعد أيام، لكنني سأعود إلى مكانٍ ليس كما كان.
أشعر بحزنٍ عميق، وكأن تلك اللحظات خطفت جزءًا منّي للأبد. ومع ذلك، أشتاق إليها، إلى الهدوء الممزوج بالخوف، إلى الثبات الذي كنت أزرعه في روحي.. إنّها مشاعر متناقضة، لكنّها تترك في القلب أثرًا لا يمحوه الزمن.
📍إن من أوجب الواجبات بحق المدارس الدينية السنية على اختلاف توجهاتها، وضع خلافاتها جانباً وعدم الاستغراق في قضايا تاريخيّة كان لها سياقها وظروفها، يكفينا الاتفاق على الأصول الكبار والكليات العامة، ففي زمن المعارك الكبرى تذوب الهويات الصغيرة. 📍وإن من يسعى لإعلاء مدرسته الخاصة والدعوة إليها دون مراعاة مقصد جمع الكلمة وتوحيد الجهود للدعوة للإسلام؛ لهو سبب في تضييع وتشتيت الطاقات وتعبئة للجمهور المتعطش بأدبيات استنزافية لاتزال تعاني منها أمتنا وثورتنا. 📍لقد تعبنا من عمليات النبش في التراث وكتب الفرق والردود والمجادلات؛ لا لكي نستلهم الحلول لواقعنا بل لنجد الحطب لإذكاء نيران الاختلافات والمعارك الوهمية، في وقت يتعرض فيه الإسلام لأخطار وجودية. 📍إن أسانيد الحديث والعلم والفقه التي تلاقى فيها السلفيون مع الأشاعرة والماتريدية والحنابلة وغيرهم، لا بد أن تلتقي في ميدان الواقع -وخاصة بعد انتصار الثورة- على كلمة سواء صفاً واحداً أمام الآخرين من شتى الملل والنحل والفرق.
📌استمعت إلى وصية الشيخ سارية الرفاعي رحمه الله وهو على فراش الموت، تأثرت به وهو ينصح أهل العلم بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبيين الحق دون هيبة الناس حكاماً ومحكومين، وهذه الوصية لا شك لها أهميتها، كيف لا وهو في مقام المودع!، تبين هذه النصيحة فقه الشيخ رحمه الله، وكذلك عظم النصيحة وواجب العلماء الأكبر في حقهم، شكر الله له ولكل من وقف في وجه الطاغية الأسد وغيره من الطغاة، ولولا أن رأى الناس وقوف العلماء في بداية هذه الثورة لما انتشرت وحملت السلاح وجاهدت حتى انتصرت، رحم الله الشيخ الصابوني نتذكر مواقفه القوية، وحفظ الله الشيخ كريم راجح والشيخ أسامة الرفاعي وسائر العلماء والمشايخ والدعاة الذين وقفوا مع الحق ضد الظلم والطغيان، بعضهم قضى نحبه وبعضهم ينتظر على طريق الج هـاد وحفظ الدين وتبليغه.
كان اللقاء الأوّل هنا في هذا المعهد ثمّ تحت جسر حلب مرورًا بمحافظتي حماة وحمص ثمّ خُتم في أمويّ دمشق
لأوّل مرّةٍ: لا أخفيكم، فقد عملت في دورات الانتساب الشرعيّ للمجاهدين مشرفًا تربويًّا ما يقارب الثلاث سنوات، سنوات كانت مزيجًا من الجهد، والعطاء، والتوجيه الإيمانيّ الذي يملأ القلوب رجاءً وثباتًا. كنت أرى في وجوههم شغفًا للعلم وحرصًا على تطهير النية، وكانت كلماتنا التي نزرعها في قلوبهم بمثابة بذورٍ تنمو بصمتٍ حتى يحين موعد الثمار.
مرت الأيام، وقبل فتح حلب، التقيت بهم مرة أخرى؛ ولكن هذه المرة كانوا في الميدان، بأسلحتهم وهممهم، يحملون في قلوبهم ما زرعناه من الإيمان واليقين، وفي أيديهم ما يعينهم على نصرة المظلوم ودحر الظالم. كان شعورًا يعجز اللسان عن وصفه؛ شعور الأب الذي يرى أبناءه وقد كبروا على عينه وصاروا رجالًا يشرف بهم.
وما كان أعظم دهشتي عندما كنت أمرُّ بمدينة أثناء تحريرها، فأجد بين الصفوف ثلةً ممن كنت أُعدّهم يومًا، أجدهم ثابتين كالجبل، يرددون كلماتٍ طالما حملتُها لهم في الدروس. هناك، في قلب الميدان، أدركت أنّ الكلمة الصادقة والعمل المخلص لا يذهب عبثًا، بل يُنبت رجالًا يحملون الأمانة وينطلقون بها.
لقد كان ذلك بالنسبة لي شهادةً من الله بأنّ العمل الذي قدمته لم يكن هباءً، وأنّ الرسالة وصلت وحقّقت أثرها. فالحمد لله الذي جعلنا من أسباب الخير، ونرجوه أن يتقبل منا ومنهم، وأن يجعلنا جميعًا على درب العزّة والتمكين.
في قلب أمةٍ أثقلتها المعاناة، ووسط نيرانٍ تتأجّج في كلّ زاويةٍ من زوايا الوطن، ارتفعت أصواتٌ تهدد وتحذر: "الأسد أو نحرق البلد!" كانت كلماتهم كالسيف المسلول، تمزق نسيج الأرض التي حملتهم وحمتهم يومًا.
لكنّ للقدر مسارٌ مختلفٌ، وللتاريخ حكمته! ظلّت البلاد شاهدةً على مآسيها، تتنفّس رماد الحرائق وتلعق جراحها، بينما احترق "الأسد" بمعناه ومبناه. لم يبقَ من جبروته إلا أطلالٌ تروي قصص الطغيان، وألسنة نارٍ التهمت كل شيء، إلا فكرة الحرية التي استوطنت قلوب أبنائها.
يا لوطنٍ يحمل بين طيّاته دروس التاريخ، يعلمنا أنّ القهر قد يُشعل الحرائق، لكنّه لن يُطفئ أحلام الأحرار. فالأسد قد يحرق نفسه، لكن البلاد تبقى، تُجدّد عهدها مع الحياة كلما ظنّ الطغاة أنها أفلتت إلى العدم.
عامٌ يبدأ بلا توحيد، بل أيضًا يُنسب فيه لله ولدٌ؛ هو عامٌ تغيب فيه بركات السماء عن القلوب، وتنطفئ فيه أنوار الفطرة. كيف تُزهر الأيام والقلوب بعيدةٌ عن أعظم الحقائق: أنّ الله أحدٌ، لم يلد ولم يولد؟!