View in Telegram
هل كان المسلمون يكفرون من يمتهن صناعة الطب والهندسة؟ من سخيف ما يقال في تقييم المجهود المعرفي الذي خلّفه المسلمون: أنهم لا يعترفون بالعلوم التجريبية ويكفرون أصحابها، فكثير من الأطباء والمهندسين والفلاسفة جرى تكفيرهم. ثم يأتي بعض المنهزمين ويلمّع هؤلاء سعياً منهم في تثبيت أن الأمة لم تمنع الطب والهندسة والخ. وهذا جهل تاريخي من المدعي والمدافع المنهزم. والصواب أن جهة التكفير لم تكن بسبب هاتين الصناعتين، وإنما كان الزنادقة المكفرون بمقالات كفرية عند طوائف الأمة يمتهنونهما. فالموضوع اقتصادي إلى حد كبير. وتوضيح ذلك: أن الفقهاء كانت بأيديهم الوظائف الإدارية والأوقاف، فكانت الولايات التي بأيدي السلاطين يعينون عليها الفقهاء، كولاية القضاء، والحسبة، والإمارة على الأمصار، وإمامة الجوامع، والسفارة، والوزارة…الخ. ولم يستفحل تأمير غيرهم -كتأمير العسكر مثلاً- إلا مع المماليك ثم دولة الأتراك. وكان التجار من جهة أخرى بأيديهم الأوقاف، فكل تاجر يشترط للتعيين على وظائف أوقافه من كان من أصحاب مذهبه، من تعليم ونظارة ونحوها، بل وكذلك الوصايا، وهذه تتطلب تزكية شيوخ كل مذهب، ودراسة على أيديهم. فلم تنل الزنادقة بعد ذلك شيئاً. فكان لابد لهم من امتهان الطب، لكي ينالوا وظائف الطبابة عند الولاة، وتكون لهم مهنة عند غيرهم من عامة الناس. بل في كثير من الأحيان كان الذي يقوم بها النصارى واليهود؛ لأنهم لم يكونوا ينالوا شيئاً داخل المجتمع غيرها. فبذلك اقترنت الفلسفة بالطب، حتى في كتب التراجم، ربما وجدت تراجم الحكماء والأطباء في ديوان واحد. ولما كانت الهندسة في بواكيرها تُدرّس ضمن الحكمة، كان الذي يتولى تدريسها هؤلاء الزنادقة، وكان لابد لمن يريد امتهان هذه المهنة أن يوافق شيوخه على مذاهبهم، حتى انفصلت تدريجياً بعد ذلك فربما تولاها قاضٍ، كما في حال بعض قضاة الروم من دولة الأتراك.
Telegram Center
Telegram Center
Channel