أيُطولُ الهجرُ وأظلُّ أعيشُ في ظلالِ غيابك؟ أحقًا قدّر لي أن أحمل هذا الجرح المفتوح، أن أمشي على دروبٍ لا نهاية لها، أبحثُ عنك بين ملامحَ باهتة ووجوهٍ لا تمتُّ لك بصلة؟ أأبقى أسيرًا لحزنٍ لا ينطفئ، لحلمٍ يتكرر كأنه عقابٌ على ذنبٍ لم أرتكبه؟ أيها البعيد، أيها القريب في مخيلتي، كيف للوقت أن يمضي وهو يسرق مني آخر ما تبقى من يقين؟ كيف أواجه كل هذا العالم وأنت غائب، وأحمل على كتفيّ عبء الاشتياق الذي ينهش روحي بلا رحمة؟ أأصير ظلًا هائمًا، أرسم حضورك في تفاصيل لا وجود لها إلا في ذاكرتي؟ لقد أخذ الهجر مني كل شيء. أخذ ضحكتي، وأطفأ بريق عيني، حتى قلبي الذي كان يومًا نابضًا بك، صار يئنّ بصوتٍ خافت. أعيشُ على أملٍ هشّ، أقنع نفسي كل ليلة أن الغد قد يحمل وجهك، أن الطرقات التي أمشيها قد تقودني إليك، لكن الصمت يصفعني، والفراغ يحيط بي كأطلال مدينةٍ مهجورة. أخبرني، هل الهجر قدرٌ أم اختيار؟ هل كان هذا الغياب حتمًا علينا أن نعيشه؟ أم أنك اخترت أن تترك قلبي يحترق وحده؟ لا أعلم إن كان ما أشعر به هو حبٌ أم عذابٌ يتجاوز حدود الوصف. كل ما أعرفه أني عالقٌ في هذه المسافة بين ما كان وبين ما لن يكون. أُعاقب نفسي بالذكريات، أسترجع أدقّ تفاصيلك كأنها شريط لا ينتهي. صوتك، نظرتك، حتى الكلمات التي كنت تهمس بها باتت كالنقش على الحجر في ذاكرتي. لكنك لست هنا، ولن تكون هنا. أعيشُ في مدينة أشباح اسمها الحنين، أخوض معارك يومية مع الفراغ، وأعلم أنني أخسر كل يوم جزءًا من نفسي. فهل سيطول الهجر أكثر؟ أم أن النهايات السعيدة مجرد كذبة نلوكها لنواسي أرواحنا المكسورة؟ يا من علّمني الشوق كيف يكون الموت على قيد الحياة، إما أن تعود، أو أن تأخذ ما تبقى مني وترحل بعيدًا... بعيدًا جدًا أيُطوِلُ الهجرُ وأبقى دون لقاءكَ؟ أيُعقل أن أتحملَ كلّ هذا الغياب وأصبرُ على حرقة الاشتياق التي تنهشُ أضلاعي كل يوم؟ أتظنُّ أن القلب الذي أُنهِكَ بالحنين قادرٌ على تحمّل المزيد؟ لقد أرهقني الانتظار، وأثقلني الصمت، وكأنني عالقٌ في دوامةٍ لا نهاية لها، حيث كل لحظة تمضي تأخذُ معها جزءًا مني. أيُطوِلُ الهجرُ إلى هذا الحدّ الذي يجعلني أشكُّ في يقين اللقاء؟ أم أن اللقاء باتَ حلمًا بعيدًا لا مكان له في واقعنا؟ كلما حاولتُ إقناع نفسي أن الغياب مؤقت، وأن الأيام تحمل في طياتها وعدًا بالرجوع، أجدُ أن الغياب يزدادُ عمقًا، والوجع يزداد قسوة. أخبرني، كيف أعيش دونكَ؟ كيف أتنفسُ في عالمٍ لم تعد فيه؟ كل شيء يذكرني بكَ: الأماكن، الأصوات، حتى صدى الذكريات الذي يخترقُ عقلي دون استئذان. أعيشُ بين طيات الذكرى، أستحضر ملامح وجهكَ، صوتكَ، وحتى تلك الضحكات التي كنتُ أظنها ستبقى معي للأبد. ولكن ها أنا الآن، أعيشُ غريبًا حتى عن نفسي. أرتدي وجه الصبر بينما داخلي يغرقُ في بحرٍ من الحزن. أكتبُ رسائل لن تصل، وأتحدثُ مع فراغٍ لا يجيب. هل ستطولُ هذه الوحدة؟ هل ستبقى الروحُ حبيسة الهجر؟ أم أن هناك يومًا ستشرق فيه شمسي، وسيجمعنا القدر كما كان من المفترض أن يفعل منذ البداية؟ حتى ذلك اليوم، سأبقى هنا، في انتظارك، محاطًا بألم الغياب ومرارة الشوق.