في عام: (1966م) حجَّ الشيخُ حسن حَجَّتَه الشهيرة، وعندَ عودِته خرجتْ دمشقُ كلُّها لاستقباله، بل ومِن سائر المدن السورية ...
فاغتاظتْ حكومةُ حزبِ البعث مِن هذه الحفاوةِ التي منحها السوريونَ لهذا العالم، فبدأت بالتربُّص بالشيخ محاوِلةً إثارةَ الفتن وتأجيجِ النفوس فكتب ضابطٌ باطنيٌّ مقالةً في مجلة (جيش الشعب) الحكومية، أعلن فيها بكلِّ صراحةٍ ووقاحةٍ ضرورةَ جعلِ الإنسان العربيِّ كافرًا بالقيم والأديان، وأنه ينبغي وضعُ الخالق والدِّين في المتحف !
فرأى علماءُ دمشقَ مِن أمثال: (عبد الكريم الرفاعي، ملا رمضان البوطي، أحمد الدَّقر، حسن حبنَّكة) ضرورةَ إعلانِ كلمةِ الحق، وأنَّ السكوتَ على هذا الأمرِ الشنيع سيُعطي الدولةَ فُرصةَ التمادي على الدِّين وأهلِه.
وفي أواخر شهر نيسانَ سنةَ: 1967م أُخبر الشيخُ بأنَّ الدولةَ دبَّرتْ له مكيدةً للقبض عليه عقبَ صلاةِ الجمعة، وعلم أنَّ خطبةَ الجمعة سيكون وراءَها السجنُ، فأشار عليه البعضُ بأنْ يُوكِّلَ مَن يخطبُ عنه، إلا أنَّ الشيخَ غلبتْه شجاعتُه وذهب لخطبة الجمعة كعادته.
خطب الشيخ يومَها نحوًا مِن ساعة، ومما قال في خطبته: «شعبنا في بلادنا هذه شعبٌ مؤمنٌ بالله، المسلمُ يقول: الله ربي، والنصرانيُّ يقول: الله ربي، واليهوديُّ يقول: الله ربي، فشعبُنا هذا بأكثريَّتِه الساحقةِ يؤمن بالله، حتى الجيشُ لأنَّ الجيشَ من الشعب. السلطات تقول: إنها تمارس مهنتَها تحتَ رقابةِ الشعب، إلا أنَّ التصريحَ الذي قرأناه في مجلة تُسمّى: (جيشَ الشعب) يتحدى عقيدةَ الشعب وإرادتَه، إني أُشارك الشعبَ في غضبه لدينه، ولكني أستعمل الحكمة، غيرَ أنَّ مِن المؤسف والمحزنِ أنه كلما قامتْ صيحةٌ دينيةٌ صادقة قيل: هذه مِن دافع الاستعمار والدولار، وأما الذين يُلحدون بالله فلا يقال في شأنهم شيءٌ، بل هم قومٌ مرضيٌّ عنهم، مفسوحٌ لهم المجال في كلِّ شيء. هذا متكلِّمٌ يُعدَم لأنه قال الحق، وذاك مدرِّسٌ يُضرب لأنه قال الحق، وهذا معلِّمٌ يُقتل أو يُسرَّح لأنه يقول الحق»
ثم ذكر الشيخ مِن على منبره: أنَّ هذه المقالةَ ليست زلَّةً عابرةً مِن رجلٍ، ولكنْ وراءَه عصابةٌ متربِّصة.
وبعدَ مدةٍ ذهب الشيخُ بسيارته لزيارة أحد مراكز الدولة، فأخذوه ووضعوه بسجن القلعة بدمشق.
وفي صباح الخامس مِن حزيران سنةَ: 1967 بدأتْ إسرائيل بالهجوم على الطيران المصريِّ، كان الطيارون ليلتَها ساهرينَ بحفلاتِ مجونٍ وترفيهٍ تفاؤلًا بالانتصار المرتَقبِ على إسرائيل، فنام الساهِرون المحتفِلون، وجاء الطيران الإسرائيليُّ عقبَ طلوعِ الشمس ودمَّر الطيرانَ المصريَّ في المطارات ...
وفي تلك الأثناء جاء وزيرُ الداخلية إلى الشيخ حسن حبنَّكة وأعلمه بأنَّ الدولةَ قررَّت الإفراجَ عنه، فطالب الشيخُ بالإفراج عن كل الذين اعتُقلوا بسبب قضيته أيضًا، فخرج الشيخ مِن السجن صباحَ اليوم السادس من حرب حزيران.
فيا شبابَ الأمة اعرفوا تاريخَكم، واقتدوا بعظماء أُمتكم؛ كي تكونوا سببًا بنهضتها وإعادةِ مجدها ...
يقول محمد وائل: هذه الأحداث بتفاصيلها أودعتُها في رسالةٍ بترجمة الشيخ حسن حبنكة قمتُ بتحقيقها ونشرها، وهي من تأليف شيخ القراء العلامة المفتي كريم راجح حفظه الله تعالى
ـ أهمُّ انتصارٍ لصلاح الدِّينِ الأيوبي: هو تطهيرُ مصرَ من الدولة العُبيديَّةِ المجرمةِ الباطنيَّة ... (كما ذكر ذلك الحافظُ المؤرخُ الذهبيُّ في تاريخه 369/12) ـ لا معركةُ (حطين) كما في المناهج الدراسيَّة !
ما مِن عبدٍ يقول في صباح كلِّ يومٍ ومساءِ كلِّ ليلةٍ: (باسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميعُ العليم)، ثلاثَ مراتٍ لم يضرَّه شيءٌ !
العلامةُ المفسِّر، والموسوعيُّ الداعيةُ الدكتور صلاح الدين بن عبد الفتاح الخالدي، الفلسطيني الأردني (ت1443هـ) رحمه الله ...
زرتُه بداره في مدينة عُمان عامَ 1421هـ، فحدثني: كيف عمل النظامُ السوريُّ البعثيُّ على إماتةِ الشعور الدينيِّ والانتماءِ إلى الأمة؛ وذلك من خلال (منظمة طلائع البعث) أولًا، ثم (اتحاد شبية الثورة) ثانيًّا، وصولًا إلى (الجيش السوري) ثالثًا وقال لي: إنَّ هذه المراحلَ الثلاثَ تكفي - دونَ أيِّ مؤثراتٍ خارجيةٍ - في إفساد أبناء سورية
فهم لا يعملون - ظاهرًا - على إخراجهم من الدين، ولكنهم يجتهدون على إخراج جيلٍ لا ينزعجُ إذا شُتم دينُه، ولا يغارُ إذا تُعدِّي على أعراض المسلمات، ولا يعملُ على رفعِ الظلم عن نفسه ولا عن الآخرين ...
وحدثني: أنَّ أولَ شيءٍ قام به حزبُ البعث - بعدَ انقلابه على الحكم في سوريةَ - هو تغييرُ مقرراتِ الديانة والتاريخ، واستبدل كثيرًا من المصطلحات فيها، وما ذلك إلا لإفساد العقول تدريجيًّا، وجعلِ المجتمع السوريِّ مفكَّكًا لا يَهمه إلا لقمةُ العيش، وأداءُ الفرائض بعيدًا عن الأمة، معزولًا عن العالم الخارجي، وهذا ما كان إلا مَن رحمه ربي، أو تحصَّن بملازمةِ العلماء وصحبةِ الصالحين …
في حدود عام (922هـ ـ 1516م): اجتمع علماءُ وأعيانُ وأشرافُ بلادِ الشام سرًّا في مدينة عينتاب شمالَ حلب، ثم قرَّروا أنْ يتولى قضاةُ المذاهبِ الأربعةِ كتابةَ عريضةٍ يُخاطبون فيها السلطانَ العثمانيَّ (سليم الأول).
ومما جاء في هذه العريضة: إنَّ أهاليَ بلادِ الشام قد ضاقوا ذرعًا مِن ظُلم المجرمينَ والباطنيةِ الذين تَسلَّطوا عليهم، فانتهكوا حرماتِ الدينِ ودماءَ المسلمين، وإنَّ السلطانَ إذا قرَّر الزحفَ على هؤلاء الطغاةِ فإنَّ أهلَ الشامِ سيُرحِّبون به ويُؤازرونه ...
فدخل السلطانُ سليم بلادَ الشام، فنَصَر المستضعفينَ وأعزَّ أهلَ الإسلام، وأوَّلُ ما فعله عندَما وَصَل إلى دمشقَ أن اغتسل شرقَ حيِّ العمارةِ، ثم ذهب لصلاةِ الجمعةِ بالجامع الأموي، وبعدَ الصلاة أكرم الخطيبَ والأئمةَ والمؤذِّنين، ثم أقام بسوق الخياطين، وأمر بإكرام جميعِ الأئمة والعلماءِ والمدرِّسين، واستمر في الإنفاق على أهل دمشقَ وضواحيها ثلاثةَ أيام، ورفع المظالمَ ونادى في دمشقَ بالأمان ...
ثم كان أولُ الأوامرِ التي أصدرها السلطان سليم ببلاد الشام تنظيمَ أمورِ الفتوى، وترتيبَ مناصبِ العلم والسياسةِ فيها، ونصَّب قاضيًا لكلِّ مذهبٍ مِن المذاهب الأربعة.
هذا ما شاهده ودوَّنه الأئمَّة المؤرِّخونَ والمحدِّثون، فدعْ عنك ـ أيها العاقل ـ ما افتراه الصليبيونَ وأتباعُهم القوميون!
ومَن أراد الاستزادةَ فعليه بكتاب (العثمانيون في التاريخ والحضارة) للمؤرخ البروفسور محمد حرب: ص140، وبالتتمَّةِ الحاديةَ العشرةَ التي ألحقتُها بتحقيقي لكتاب (قلائد العقيان): ص199. وكتبه الفقير إليه تعالى محمد وائل الحنبلي الدمشقي