يجلسُ وحده في الليلِ ينظرُ إلى السماءِ بنفسٍ هلكت من كثرةِ الركضِ ويقول: يَا رَبّ وددتُ فقط أن أصل هذه المرة، أن تُجاب تلك الدعوة التي بذلتُ فيها روحي هذه المرة وأستكملُ المسير وأُعاودُ الركض في دربٍ جديد يَا رَبّ أنا مُتعَب ووحدكَ تعلم يَا رَبّ هب لي ما سألتُكَ ويبكي..
عود نفسه إن بدأ شيئًا أن لا يبرحه إلا إن بلغ ووصل، وإن لم يبلغ يكن أتم المُحاولة والخُطى، أن يبذل ما استطاع.. وذاك شعاره في السَيّرِ «ما استطعت يا فتى»
وجهي تكسوهُ اللامبالاة وملامحي تشبهُ لوح الثلج، تنظرُ إليّ فتشعر وكأنك تنظرُ إلى دُميةٍ بلا روح؛ جرب أن تقترب، أن تنظر بعيني جيدًا تلك العينُ التي لا أقوى على رفعها بعين أحد مُدة تزيد عن الثلاثِ ثوانٍ دُومًا أتغاضى التقاء الأعين لأنني أخشى مِن انكشافِ ألمي، أخشى أن يرى أحد ذاك الشرخ بداخلي وتلك العبرات المُوقدة داخل مُقلتاي وأكره تلك النظرة المملؤة بالشفقة والعجز والضعف، لستُ بعاجزة أنا فقط بحاجةٍ إلى ضمةٍ صادقة وحنونة وسأبكي بل سأمطرُ دُموعي وآلامي وانكساراتي وخيباتي ومعهم أمالي وأحلامي وسنون عُمري العشرين الضائعة، سأبكيني وأبكي قلبي وروحي لو أن أحدهم فقط ضمني إليه وجعل لي من ضلوعه مسكنًا.
عندما نلتقي سأُحدثُكَ عن جُروحِ وهُيامِ الشُعراء، وعن أفكارِ وأنينِ الأُدباء، وأحكي لَكَ عن أبطالِ الروايات التي قرأتُها، وأُناقشُكَ في كُلِّ مَا قرأتُ في علمِ النفس البشرية، وعن مَا أُفضلُ مُشاهدته مِن أفلامِ، سأُوريكَ قائمتي المُفضلة مِن المُوسيقىٰ، وأشرحُ لَكَ غرامي بفترةِ الستينات وعن حُبي الشديد للونِ البُني -فقط لأنه لون عيناكَ-، واللون الأزرق -لأنه كقلبكَ المؤخُذُ مِن السماءِ الصافية-؛
عندما نلتقي لَنْ أفعل شيئًا سوىٰ النظرِ إلىٰ عينيكَ وقسمات وجهكَ -خِلسةً-، والاستماع إليكَ والطربُ بضحكاتكَ، فقط.
يملكُ ذاكرةً عتيدة من التيه والغُربة، عُمرًا مديدًا من التعب والإرهاق الذي طالما شَعُرَ به مجرورًا وراء ظهره.. يخطو في عقده الثالث بقلبٍ هالك وكأنه تخطى عقده المئة!
ويبكي قلبه يبكي كثيرًا؛ لأن عيناه قد تعبت وهلك كُلّه يبكي نفسه، أحلامه، أمانيه، وطمأنينته المسلوبة وأمان فؤاده وكُل شيء يبكي ولا تُسعفه عيناه، ولا تأتيه الدموع.. كأن ما يحدث أكثر من قدرة الدمع على وصفه!
كان مُتعَب حقًا لم يكن يدعي ذلك، تضيقُ دُّنياه ويتكابلُ كُلُّ شيءٍ حول عُنقِهِ. ذاك المسكين كان بسيطًا في كُلِّ شيء، ولم ينل شيئًا بسُهولةٍ من قبل، الأشياء البسيطة -التي هيّٰ حقوقه في الغالبِ- كانت تستحيل عندما يشتهيها. يُنهكُ جسده لينسى انتهاكات روحه، لتكن آلام بدنه أعلى صراخًا من رأسه وما يحويه.. للّٰهِ هو! كيف بقي واقفًا على قدميه بعد كُلِّ ما رأى؟ سِير يا فتى فاللّٰهُ رَبُّكَ وفي قلبِكَ؛ طالما كلفكَ فسُتعان.. رحيمٌ حكيم لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يُحمل عضُّدًا إلا بقدر طاقته!