وأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ «مَن سَلَكَ طَريقًا يَلتمِسُ فيه عِلْمًا»، وهذا يَشمَلُ الطَّريقَ المَعنويَّ والطَّريقَ الحِسِّيَّ؛
• فأمَّا المعنويُّ فهو الطَّريقُ الَّذي يُتوصَّلُ به إلى العِلمِ؛ كحِفظِ العِلمِ، ومُدارستِه ومُذاكرتِه، ومُطالعتِه وكِتابتِه، والتَّفهُّمِ له، بأنْ يُلتمَسَ العِلمُ مِن أفواهِ العُلماءِ ومِن بُطونِ الكُتبِ؛ فمَن يَستمِعُ إلى العُلماءِ، أو يُراجِعُ الكتُبَ ويَبحَثُ فيها -وإنْ كان جالِسًا-؛ فإنَّه قدْ سلَكَ طَريقًا يَلتمِسُ فيه عِلمًا..
وأمَّا الطَّريقُ الحِسيُّ فهو الَّذي يَجتهِدُ فيه المرءُ، ويَسيرُ فيه على الأقدامِ؛ مِثلُ أنْ يَأتيَ الإنسانُ مِن بَيتِه إلى مَكانِ العِلمِ، سَواءٌ كان مَكانُ العِلمِ مَسجِدًا، أو مَدرسةً، أو جامِعةً، أو غيرَ ذلك، «سَهَّلَ اللهُ له به طَريقًا إلى الجَنَّةِ»، أي: يَسَّرَ اللهُ له عمَلًا صالحًا يُوصِلُه إلى الجنَّةِ بفَضلِ اللهِ ورِضوانِه عليه، فيُوَفِّقُه للأعمالِ الصَّالِحةِ، أو المُرادُ: سَهَّلَ عليه ما يَزيدُ به عِلمُه؛ لأنَّه أيضًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، بلْ هو أقرَبُها؛ لأنَّ العِلمَ الشَّرعيَّ تُعرَفُ به أوامِرُ اللهِ ونَواهيهِ، فيُستَدَلُّ به على الطَّريقِ الَّذي يُرضِي اللهَ عزَّ وجَلَّ، ويُوصِلُ إلى الجنَّةِ، ويكونُ طلَبُ العِلمِ وتَحصيلُه باتِّخاذِ كلِّ الوسائلِ المُستَطاعةِ وإنْ لم يكُنْ هناك سفَرٌ؛ كأنْ يُلازِمَ مَجالِسَ العِلمِ، ويَقتنيَ الكُتبَ النَّافِعةَ المُفيدةَ لأجْلِ دِراستِها والمُذاكَرةِ فيها.
• الصَّلاةُ لها أهمِّيَّةٌ كَبيرةٌ في حَياةِ المُسلِمِ، فعليه أنْ يُحافِظَ على إقامتِها وأداءِ سُنَنِها وأَركانِها على الوَجهِ المَطلوبِ، وأنْ يُكثِرَ مِن صَلاةِ التَّطوُّعِ؛ لأنَّها تَجبُرُ الفَريضةَ، وأنْ يجعَلَ لبَيتِه نَصيبًا مِنَ الخَيرِ بصَلاةِ النَّوافِلِ فيهِ حتَّى يُصيبَه الخيرُ.
• وفي هذا الحَديثِ إرشادٌ وتَعليمٌ نَبويٌّ؛ إذ أمرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه إذا أدَّى المسلِمُ الصَّلاةَ المَفرُوضةَ عليه في المَسجِدِ، «فلْيَجعَلْ لبَيتِهِ نَصيبًا مِن صَلاتِهِ»، أي: فليُصَلِّ بعضًا مِنها في بَيتِه، وهيَ صَلاةُ النَّوافِلِ؛ وذلك لكونِ الصَّلاةِ في البَيتِ أخْفى وأبعَدَ منَ الرِّياءِ، ولِيَتبرَّكَ البيتُ بذلك وتَنزِلَ فيه الرَّحمةُ والملائكةُ وينفِرَ منه الشَّيطانُ..
• وقد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ جاعلٌ في بيتِ هذا المتطَوِّعِ مِن أجْلِ صَلاتِه خيْرًا يَرجِعُ على أهْلِه ووَلدِه بالبَرَكةِ في الأَرْزاقِ والأَعْمارِ، وزِيادةٍ في الهُدَى والتُّقَى، وعِمارةِ البَيتِ بالذِّكْرِ والطَّاعةِ، ونُزولِ المَلائكةِ للدُّعاءِ لأَهلِ البَيتِ والاستِغفارِ لهُم.
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عطاء ، حدثني أبي ، ثنا محمد بن مسلم ، ثنا سلمة بن شبيب ، ثنا مبارك أبو حماد - مولى إبراهيم بن سام - قال : سمعت سفيان الثوري ، يقرأ على علي بن الحسن السليمي : " يا أخي ، لا تغبط أهل الشهوات بشهواتهم ، ولا ما يتقلبون فيه من النعمة ، فإن أمامهم يوما تزل فيه الأقدام ، وترعد فيه الأجسام ، وتتغير فيه الألوان ، ويطول فيه القيام ، ويشتد فيه الحساب ، وتتطاير فيه القلوب حتى تبلغ الحناجر ، فيالها من ندامة على ما أصابوا من هذه الشهوات ، اجعل كسبك فيما يكون لك ، ولا تجعل كسبك فيما يكون عليك ، فإن الذي يقدم ماله ويعطي حق الله منه ، فماله له وأفضل منه ، والذي يخلف ماله ، ويضيع حق الله فيه فماله وبال عليه يوم القيامة ، اكسب حلالا ، واجلس مع من كسبه من حلال ، وكل طعام من كسبه من حلال ، وليكن أهل مشورتك من كسبه من حلال ، فإن الورع ملاك الدين واستكمال أمر الآخرة ، واعلم أنه يا أخي ، لا يمتنع أحد عن الحرام إلا من هو مشفق على لحمه ودمه ، فإنما دينك لحمك ودمك ، فاجتنب الحرام ، ولا تجلس مع من يكسب الحرام ، ولا تأكل مع من كسبه من حرام ، ولا تدل أحدا على الحرام ، ولا تشيرن به إلى أحد فيأخذه ، ولا تورثه إلى أحد ، وانصح لكل بر وفاجر أن لا يأخذه ، فإن فعلت من ذلك شيئا ، فأنت عون له ، والعون شريك ، وإياك والظلم ، وأن تكون عونا للظالم ، وأن تصحبه ، أو تؤاكله أو تبتسم في وجهه ، أو تنال منه شيئا فتكون عونا له ، والعون شريك ، لا تخالفن أهل التقوى ، ولا تخادن أهل الخطايا ، ولا تجالس أهل المعاصي ، واجتنب المحارم كلها ، واتق أهلها ، وإياك والأهواء ، فإن أولها وآخرها باطل ، ولكل ذنب توبة ، وترك الذنب أيسر من طلب التوبة ، وإن الله غفور رحيم لأهل المعاصي ، رحيم للتوابين ، حليم ودود ، وإياك أن تزداد بحلمه عنك جرأة على المعصية ، فإن الله [ ص: 25 ] لم يرض لأنبيائه المعصية والحرام والظلم ، فقال : ( ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) ، ثم قال للمؤمنين : ( ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) ثم أجملها فقال : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) ، واعلم يا أخي ، أنه لم يرض لأنبيائه ولا للمؤمنين ولا للمشركين حراما ، ولا تتهاون بالذنب الصغير ، ولكن انظر من عصيت ، عصيت ربا عظيما يعاقب على الصغير ، ويتجاوز عن الكبير ، إن أكيس الكيس من دخل الجنة بذنب عمله فنصبه بين عينيه ، ثم لم يزل حذرا على نفسه من تلك الخطيئة حتى فارق الدنيا ودخل الجنة ، وإن أحمق الحمق من دخل النار بحسنة واحدة نصبها بين عينيه ، ولم يزل يذكرها ويرجو ثوابها ويتهاون بالذنوب حتى فارق الدنيا ودخل النار ، فكن يا أخي كيسا حذرا على ما زل منك ومضى ، لا تدري ماذا يفعل بك ربك فيه ؟ وما بقي من عمرك لا تدري ماذا يحدث لك فيها ، فإن إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حذر على نفسه فسأل ربه فقال : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) وقال يوسف عليه السلام : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) وقال موسى عليه السلام : ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) ، وقال شعيب عليه السلام : ( وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ) ، فهؤلاء أنبياؤه خافوا على أنفسهم ، وإنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " .
•الشَّيطانُ يَسْعَى دائمًا في كلِّ طَريقٍ للإنسانِ؛ لِيَحولَ بيْنَه وبيْن طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والقِيامِ بما أُمِرَ به، لا سيَّما قِيامِ اللَّيلِ وصَلاةِ الفَجرِ في وَقتِها، ولا نَجاةَ للعبْدِ مِن كَيدِ الشَّيطانِ وحَبائلِه إلَّا بالاستعانةِ باللهِ عزَّ وجلَّ، والأخْذِ بأسبابِ الوِقايةِ والحِفظِ.
•وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحالِ الإنسانِ الَّذي يُريدُ القيامَ لصَلاةِ اللَّيلِ أو الفَجرِ مع الشَّيطانِ، وصِراعِه معه؛ فإنَّ المؤمنَ إذا ذهَبَ إلى النَّومِ يَعقِدُ الشَّيطانُ على قافيتِه -يعني: مُؤخَّرِ رَأسِه- ثَلاثَ عُقَدٍ، فإذا استيقَظ المؤمنُ وذكَرَ اللهَ تعالَى ولم يَستجِبْ لوَساوسِ الشَّيطانِ؛ انفكَّتْ عُقدةٌ، فإنْ توضَّأ انفكَّت الأخرى، وإنْ قام فصلَّى انفكَّتِ العُقدةُ الثَّالثةُ، فأصبَحَ نَشيطًا طيِّبَ النَّفْسِ؛ لأنَّه مَسرورٌ بما قدَّمَ، مُستبشِرٌ بما وعَدَه اللهُ مِن الثَّوابِ والغُفرانِ، وإذا لم يُصَلِّ أصبَحَ خَبـ،، يثَ النَّفْسِ، مَهْمومًا بكَيدِ الشَّيطانِ عليه، وكَسلانَ بتَثْبيطِ الشَّيطانِ له عمَّا كان اعتادَهُ مِن فِعلِ الخَيرِ.
•وقد جاء في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: «ذُكِرَ عندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رجُلٌ نامَ لَيْلَه حتَّى أصْبَحَ، قال: ذاك رجُلٌ بالَ الشَّيطانُ في أُذنَيْه».
• وفي الحديثِ: أنَّ الذِّكرَ يَطرُدُ الشَّيطانَ، وكذا الوُضوءُ والصَّلاةُ.