أبو تمام وشغف المعرفة: "وحدثني أبو الغصن محمد بن قدامة قال: دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه فما يكاد يرى، فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه، ثم رفع رأسه فنظر إلي فسلم علي، فقلت له: يا أبا تمام إنك لتنظر إلى الكتب كثيراً وتدمن الدرس فما أصبرك عليها! فقال: والله ما لي إلف غيرها، ولا لذة سواها، وإني لخليق إن اتفقدها أن أحسن. وإذا بحزمتين: واحدة عن يمينه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذي أرى من عنايتك به أؤكد من غيره؟ قال: أما التي عن يميني فاللات، وأما التي عن يساري فالعزى، أعبدهما من عشرين سنة. فإذا عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني، وعن يساره شعر أبي نواس." (طبقات ابن المعتز)
تمر الأشهر فيتحسن يومًا بعد يوم، وتتسلل إلى عمقه الحياة قليلًا، الحديث عن حزنه فالأدوية المضادة للاكتئاب والرياضة، أشياء لم تكن تفارقة، بدا وكان الربيع سيزهر في أيامه مجددًا أنه سيغادر هذا البياض المحيط بغرفته أنه سيعود للعالم الذي أخذ منه شغفه، وكأنه سيعيش السلام الداخلي، كأن السلام سيتسلل لروحه أخيرًا، وسيتعايش مع أوجاعه والآخرين.
مر الكثير منذ الحادثة، أصبح يبدو هادئًا، كأن روحه أصبحت أكثر وقارًا، يتحدث بوعي، كلما حاول مهاجمته الحزن يتذكر ذكرياته السعيدة، فرحته بأول ابناءه، أول ذكرى لمولوده الأول، أول مرة قيل له "بابا"، النزهات القليلة التي عاشها معهم، منزله الدافي ورائحة الحب المُنبعثه منه، يتذكر الكثير من اللحظات الدافئة فيعود له السلام، ويتنهد بحب.
مرت سنوات كان مازال السلام يتغلل إلى قلبه، وكانت حرب بلده كأنها تتضامن معه، تختفي رويدًا رويدًا، تشرق من بين الركام، وتُنير الأماكن المُعتمة، يزهو الجمال منها كأنها لم تشهد حربًا، أصبح يهرب من أفكاره إلى أخبار أرضه، يمتلئ أملًا كلما سمع خبرًا سارًا، ويبتسم بمعمقٍ كلما اقتربت نهاية الحرب.
انتهت الحرب وعمَّا السلام ورائحة السكينة كل الأرجاء حتى قلبه، غادر المكان الذي استوطنه لسنوات كثيرة، غادره مودعًا حُزنه وألمه وكل الذكريات، غادره بأملٍ أن يحيا بهدوء بعيدًا عما يؤلمه، كي ينسى مُر ما عاناه لم يعد لذاك المنزل مجددًا تركه بكل الحب والدفء الذي كان به، تركه مع الأسى الذي سرق منه سنوات طويلة ليتعافى منه، ليشعر أخيرًا بالسلام الروحي متزامنًا مع سلام أرضه.
في قريةٍ ما مُحاطة بالخُضرة وقطرات الندى مستلقية على أوراق الشجر، السحاب لا زالت تحتضن الجبال بعمقٍ رافضةً للشمس أن تنير، كان يقف هناك بثباتهِ المعهود، ينظر نحو اللاشيء ويتنهد "سنلتقي يومًا" يقطع صوت أفكاره طفلًا صغير يناديه لجوارهِ كي يتأملوا منظر السحاب وهي تتنحى جانبًا للشمس كي تشرق، يمسك بيد الطفل بحب وينظر إلى عينيه بدفء كان آخر أمل له كي يعود للحياة مُجددًا، طفل صغير دون مأوى سرقت الحرب منه كل شيء عدا روحه يلتقي به ليصبح له المأوى ويصبح الطفل روحًا لروحهِ المتعبة.
في غرفةٍ جدرانها زُينت بالأبيض، راقدٌ كجثة هامدة رجلٌ تضرم الشيب في رأسه، شاحبٌ وجهه كأنه شبح عيناه سوداوتين غارقتين في الكمد، يغزو الليل جفنيه المنهكين من ضربات الأرق، كلما أغمض عينيه وحاول فتحها يظن نفسه لوهلات أنه غادر هذا العالم، يصحو من شرودٍ عميق، بعد معارك ضارية مع أفكاره التي جعلت من عقله سجينًا للشتات، فلا يعود من هذا الحبس، يستنجد زاحفًا على ركبتيه بأدويته المهدئة-التي قام بصرفها له طبيبه المعالج- فيغرق في نومٍ عميق ليرتاح من عناء تفكير طويل لم يصل بعده لشيء وهكذا تمر أيامه. ما حدث له جعل منه روحٌ طائفة في عالم الحلم وجثة ساكنة في الواقع، ما مر به كان كبيرًا على أن يستوعبه.
منذُ سنوات وحيدًا يسكن هذه الغرفة الخالية من أي لون كان، أصبحت عالمه بعدما خذلته آخر رصاصة اخترقت صدر آخر ابنائه، لم يطق ذلك المنظر المروع، أرواح فلذات كبده تحتضر أمامه تلفظ أنفاسها الأخيرة لتكُن سمًا تسلل لروحه، كان مشهدًا بشعًا يُصيب بالجنون لا يمكن لبشري تحمله، لم يكن يعلم بأنّه سيؤذى من قِبل عائلته فهُم نقطة ضعفه الوحيدة. لم يستطع بعدها التعايش مع الحياة التي ضُرِجت بدماء أطفاله، توسل للموت كثيرًا حتى أنه حاول الإنتحار، لكن الحياة كانت تتمسك به فيعود مجددًا يحمل على عاتقه هذا الحزن القاتم، مستسلمًا محني الظهر كجندي عاد من ساحة الحرب منهزمًا.
التاسعة صباحًا موعده مع طبيبه النفسي الذي لم ييأس منذ سنوات في إنقاذهِ مما هو فيه، يحاول جعله يتحدث لكن دون جدوى، فهو في حالة بؤسٍ شديدة، تتضارب به الأحداث ويعود لذاك الحادث الشنيع في كل مرة يحاول بها النسيان، ترفض ذاكرته النسيان تمامًا كما ترفض صور الذكريات الأليمة أن تتركه، ينظر إلى السماء فيتخيل أرواح وأشباح غريبة تطارده، يسمع أصوات لا وجود لها، يحيا جسد دون روح.
كل يوم يرى نفسه في الحياة، يلهث ولو لقليلٍ من السلام لكنه كلما حاول بُتر جزء منه، لا يدري لمَ يهرب منه السلام، لمَ هذا التملص والإختباء؟ ينقذه الطبيب كل مرة، وتخذله الذكريات، فتضيق به جدران غرفته التي لم يغادرها منذ زمن، ترهقه ذكرياته الكثيرة وتلك الأصوات المزعجة التي لا وجود لها إلا في مُخليته، يشعر بالذنب، الذنب ذاته الذي يجعله يشعر إنه شخص سيئ لا يستحق الحياة، يشعر باليأس من حياته، كثيرًا ما يُتمتم بصمتٍ "لا أمل لي في الحياة، الحياة حاجز كبير بيني وبين ابنائي" يخاطب الجدران تارةً، وتارةً يدخل في نوبة جنون عارمة.
يقضي ليال يقاتل السهد، فيجعل من غرفته ساحة معركة، ثم يصرخ بغضب كأنه يصرخ على أحد لكن لا وجود لأحد سواه! يعارك الهواء ونفسه. يصبح المكان عبارة عن فوضى، شخص يعاني من نفسه، أين يترك حزنه ويمضي؟ فالهرب وهم، هو يحمل حزنه معه أينما رحل، يحمل الذكريات في معطفه، تمضي الأيام هكذا بين ليال أرق، ليال مظلمة وبؤس لا ينتهي، وبين نهار معتم يفتقد الشغف فيه للتنفس حتى.
على غير عادته، استيقظ ذات صباحٍ هادئ تظن لوهلة أنه شُفي مما يشعر به، إن ما حل به تبخر، ينظر إليه الطبيب متأملًا هذه فرصته ليحاول معه، دون أن ينطق حتى بسؤال كان يروي ما مر به، يروي لأول مرة بحزن مخلوط بالكبرياء "حينها كانت السماء كئيبة لعلها كانت تشعر أن شيئًا سيحدث، دقائق حتى شاركتني المطر، كنتُ ألوح بتوسلٍ ألا تخترق الرصاصات روحي المستوطنة أجسادهم، كنت أنظر بجمود، حتى تشنج داخلي، ثقل الهواء فكدتُ أجزم أني لا أتنفس، ضربات قلبي كادت تشعرني أنه سيتوقف حتمًا، كنت سأركض لولا أن سرعة الرصاصات خذلتني، فتمنيتُ لو اخترقت عيناي عوضًا عن رؤيتهم هكذا، مر شريط حياتي أمامي كفيلم، أشتد بكاء السماء وعيناي فبكيت لأوّل مرة كطفل، ثم تسمرتُ في مكاني كأني لا أشعر، أنظر كمن لا ينظر، أريد أن أصرخ لكن صوتي لم يكاد يتجاوز حنجرتي فبكيتُ أكثر، يداي المُلطخة بدماء ابنائي، ورجفة داخلي، سواد في سواد ثم لم أشعر بشيء، استيقظت فجأة هنا للوهلة الأولى ظننت أني غادرت معه، لكني كنت أتنفس، وصوت موسيقى قلبي لازالت تعمل، لم أرحل معهم"
كان لايزال الطبيب يستمع إليه، يشعر بحزنه وبحجم المعاناة، يشعر بالأمل أنه سيعود للحياة مجددًا، ينظر لعينيه التي كأنها ستمطر، ينظر مختلفًا هذه المرة لا يحكي طلاسم، إنه يحكي البؤس بوعي تام، لأول مرة يراه يحكي، ولأول مرة يراه يتنهد، لم يتسلل اليأس للطبيب أنه سيبدأ بالتحسن، كان يتأمله بقينٍ أنه أقوى من الصدمة التي يُعانيها، أنه أقوى من الاكتئاب أيضًا.
مر شهر منذ أول يوم وصف جحيمه، أصبح يشعر أن الحديث يخفف العبء قليلًا، كان الطبيب يستمع لحكاياته، تارةً يحكي حياته البسيطة الهادئة بحب، يومه العادي الذي يبدأ بالعمل، استقبال أطفاله له الدفء المُنبعث من قبلاتهم له، والحنان الذي يغمر منزله، حنينه لتلك الأيام وللحب الذي كان فيها، وتارةً يشرد مجددًا تعود له الذكريات فيبدو كشخص سيحتضن المشنقة.
من بين عبق الرسائل القديمة كنت أقف أتأمل ما مر بي كسيناريو يصعب تصديقه، كيف مرت الأحداث حتى أتت بي إلى هنا.
رواندا ١٩٩٠ كنتُ كزهرة النرجس، كالربيع آنذاك، مشرقة كالشمس وممتلئة بالحياة، يزهر الحب في ملامحي، وتخجل الحياة من ابتسامتي، كان الحب في قلبي عامرًا يشدو كعصافير الصباح لحنًا، لكنها الأيام تسرق منا كل جميل.
صباح يوم كئيب أعلنت الحرب تمردها وقُرعت طبولها، فسقط الراء سهوًا واندثر الحب تحت ركام الحرب، فوضى وقتلى في كل مكان، الأرض تحولت لساحةِ معركة، والحياة أصبحت صعبة على من يريد، كنت حينها فتاة الحب مفعمة بالأمل، لكن الحروب التي شُنت فرقتنا، بأعذارٍ باهتة قيل لي: "كيف لفتاة من قبيلة التوتسي أن تصبح حبًا لأحد أبناء قبيلة الهوتو"، كان الخلاف كبيرًا وقبيلتنا هي الأكثر موتًا وحبنا هو الأكثر ضررًا.
اشتدت الحروب فأستيقظت ذات ليلة على فاجعة أدمت قلبي، الأرض ملطخة بالدماء يكسو عباءة الليل نوراً كالنار تلتهم ما حولنا، الأرض حرقت، الدمار أصبح أكبر، الكثير من الأرواح هنا وهناك، أصوات المدافع تنشر الرعب في أفئدتنا يقولون أنها عملية إبادة، أعداد القتلى في ازدياد، الموت منا يقترب، كنت حينها في نظر ابناء قبيلتي لستُ سوى مجرد خائنة أحبت واحدًا من أعدائهم، كانوا ينظروا إليَّ كنظرتهم لمن أشعل الحرب، يتنظرون متى ستسنح لهم الفرصة ليقتصوا مني، كنت أقف بين حب يستحال له اللقاء، وبين أرض إليها الإنتماء، اشتدت الفتن فازداد القتلى، كلما مات أحدهم أصبح حلم السلام بعيدًا في مخليتي، وأصبح اللقاء مستحيلًا، اعتدت أخبار الموت واعتدت ازدياد الأرقام، لكني لم أكن مستعدة للفقد، لم يكن لدي القوة لتوديع أحد، لتلويحة باردة ودمعة يتبعها رجاء ألا يغادروا.
كان منظره الملطخ بالدماء يدمي القلب، انصهر الفؤاد المملوء بالحب، فبكيتُ حتى شحب صوتي، النار التهمت والدي، رقم واحد ازداد في لائحةِ الموتى، لكنه كان قاتلًا بالنسبة لي، اسودت الحياة في عيني، تحول الربيع لخريفٍ باهت، اكل ما تبقى من روحي، فأصبحت ذات قلب حجري يرفض الحب كالحرب، فنظرت لأوّلِ مرة للحب كأنه من قتل والدي كأنني خنت هذه الأرض حينما وقعت في غرامِ احدٍ منهم.
مرت الأيام ابيضت عيناي من الحزن، وحن قلبي للأمان، تمنيت لو تشرق الأرض معلنة النصر، مُعلنة انتهاء هذه الحرب العبثية، أن تنمو من دماء من رحلوا زهور، كل زهرة عوضًا دافئًا عمن رحل، رحل الكثير هنا كم ستصبح هذه الأرض مزهرة.
كان نهاري كليلي، لا الشمس أشرقت، ولا الظلام غادر، عشتُ ليالٍ طوال كأنّها كانت لن تنقضي. موسيقانا الموت، وهواؤنا دخان مُعتم، وطعامنا الألم نقتاتهُ بحُزنٍ وخوف، ترتجفُ دواخلنا مع كل انفجار، وتبكي أرواحنا مع كل فقيد.
مرت سنوات هكذا أبكي بحرقة على من رحل، أتنهد برجاء ألا يرحل المزيد، كانت الحرب قد غيرتنا، جعلت منا أناس ذوي قلوب لا ترحم، وأناس ازداد الخوف في داخلهم أكثر، والأرض أبيدت وانحرقت المحاصيل، مرت سنوات هكذا بين الدماء والألم، حتى بدأت الحرب بالاندثار، فتحول دخان البارود لهواءٍ نقي، زُرعت الأرض مجددًا، وفاح عبير الأزهار.
استيقظت ذات يوم على أصوات العصافير نيابة عن طبول الحرب، فكدت أجزم أنها أضغاث أحلام لولا أنهم يقولون توحدنا، أن بناء السلام هو هدفهم، لم تسعني هذه الأرض لأفرح، داخلي يتراقص أملًا، لن يعود الغائبون لكن لا مزيد من الراحلين، ستزهر هذه الأرض مجددًا، ربما سيزهر الحب سينمو، سيشرق السلام نيابة عن الشمس.
يومًا بعد يوم أرضنا تصبح جنّة، تتحول من ساحة معركة لأرض السلام، لأرضِ تضرب بها الأمثال، كيف أعاد قائد هذه الأرض للحياة، وكيف أزهرت كهذا!
عادت الروح لجسدي، فأشرقتُ بدوري، ونما الحُب مجددًا من بين الركام، ومن أرواح القتلى من بين عبقهم، عشتُ أيامًا كانت عوضا عما مضى، فمضيت بقلب يحب السلام فالحب، توحدت قبائلنا وتعايشت، فأصبحنا حديث العالم، ينظرون بدهشة إلينا عوضًا عن نظرات الشفقة، وننظر إلى أنفسنا بأملٍ سُنزهر أكثر.
الأرض التي كانت رمادًا أصبحت ملاذًا آمنًا، الأرض تعزف سمفونية الحُب، والسماء تتراقص مطرًا، أصبحت تفوح منا الحياة، ويفوح منا الأمل.
لم أذرف دُموع الفُراق بَعدْ! أنا في انتظار السبب الذي سيعتقد الجميع بأنه سخيف للبكاء. الأمر أشبه بصلاة الجنازة بعد موت الأشخاص اختلفت المراسيم لأنها جنازة قلبي
رسالةُ بَريد " كَارولينا العزيزة البعيدة كل البُعد عن هذهِ الأرض، القريبة جدًا من قلبي المُستوطنة وتيني، أتعلمين كنتُ أحفظ خطواتكِ صباحًا مرورًا بشارعكِ المُزهر كلُّ أرض تمُرين بِها تزهر كقلبِي تمامًا حين مررتِ بجانبه، تستيقظين مُبتسمة مفعمة بالأملِ منظركِ يشع نورًا وحياة، أنا أتذكر أنا من يتذكر كيف رحلتِ من هنا، كيف تلاشت أحلامي في غمضةِ عين، وكيف انتهت قصتنا التِي لم تبدأ، كنتُ لأزال أنظرُ إليكِ كل صباح بعينٍ مُفعمة أنّكِ والأحلام لي، خذلتني آخر ذَرة اكسجين خَذلتكِ ورحلتِ بها، صدقيني أنا من يتذكر كيف كان غيابكِ يمرُ علىٰ قلبي كسكينٍ لا رحمة لها، كيف أسوّدت الحياة أمام عينيَّ، وكيف أصبحتُ هكذا انتظركِ، لا تخافي لو أن بيننا ألف عالم سَآتي، فقط انتظريني انتظِريني"
شاردةٌ بِاللاشيء، أتأمل تضاريس المنزل دون وعي، وانظر إلىٰ تفاصيل يديّ بإنبهارٍ كأنّي لأوّلِ مرةٍ أراها، أتأمل ملامحي بصمتٍ وأغوصُ بأفكارٍ تشبه الحياة واقعية جدًا، أتأمل سطح المنزل كأنَّهُ فضاء واسع بدهشةٍ انظر حولي بصمتٍ قابع وثبات مُصطنع، قطع ثباتي صوت "رِسالة للبريد" بفتورٍ وعينيّنِ ذابلتين تشعُ كُره للأيامِ المُكررة فتحتُ تلك الرِسالة التي لم تُعني لي شيء "انتظَريني".
لم أعطِ أيُّ اهتمام لرسالةٍ كهذه لرُبما من أرسلها إليَّ أخطأ رُبما كان قاصدًا عنوان آخر، رُبما لصديقهِ أو محبوبتهِ لتنتظرهُ ما شأنِي بسخافاتهم، أغلقتُ هاتفي متذمرة ما شأني بالبريدِ الخاطئ هذا، عدتُ أتأملني كأنِّي لأوّلِ مرة أقابلنِي واتحدث إليَّ كأنّي بموعدٍ معي، أسألني وأُجيب، أجلس في هذا المكان من أيام عِدة بمفردي لكن المكان يضج بأروحِ الغائبين، أكاد أجزم أنّي اشتم رائحة من رحلوا، عبقهم يملئ الأرجاء، دمعة باردة استوطنّت خدي هي من جلعتني استيقظ من كابوس الذكريات الذي أعيشهُ من نفسي كل يوم، صوت رِسالة أُخرىٰ لكنها غريبة هذه المرة ببرودٍ مسكتُ هاتفي لأقرأ.
"انتظِريني" الإنتظار مُؤلم يا عزيزتي كارولينا والبعد شاقٌ على قلب يهوىٰ كقلبِي، الأيام التي لا تحتويكِ باهتة فأنتظِريني.
كنت سأتغاضى عن الرسالةِ كغيرها لولا أن اسمي هذه المرة مُدون بِها إنها لي، من ذا الذي سَيخطئ بالبريدِ وبالأسم أيضًا؟ لا بأس رُبما هي تفاهات الأصدقاء لديَّ مواضيع أهم لأغرق بها لا وقت لي لأخوضَ برسائلٍ مجهولة الهوية، استوقف تفكيري صَوت الرِياح صوت يَعم الأرجاء يُحيط بك يجلب لك الخوف، الخوف من أن تتذكر أنّك وحيد، صَوت الرياح هكذا يشعرني بالوحدة، اغمضتُ عينايَّ بقوةٍ كي يحل عليَّ زائر النوم، لأنام قليلًا لتهدأ الأصوات التي تستوطنُّ عُمقي.
السادسةُ صباحًا علىٰ صوتِ رسالةِ بريد استيقظتُ أفتح عينايَّ بصعوبةٍ كانت ليلة حافلة بِالذكريات، مُمتلئة بالماضي، بقليلٍ من الإهتمام فتحتُ الرسالة: " عَزيزتِي كَارولينا كيف كانت ليلتكِ؟ أعلم أن الرياح تُخفيك، رغم قوتكِ قلبكِ قطنيٌّ، أمازلتِ هكذا يُبكيكِ حُزن طفل مشرد، ويَتيم دون مأوىٰ؟ لا تَندهشي فلستُ شخصًا أجهلكِ، شخص مثلي قد غرق في تفاصيلكِ الصغيرة، في قطقطةِ أصابعكِ توترًا لنعاسكِ خوفًا، لِأدعاءكِ باللامبالاةِ كبرياءً، لم تكن مُهمة معرفتكِ صعبة علىٰ شخصٍ يُريد ذلك، ولو أنَّ سنوات عمري فُنيت لأجلِ تلك اللحظة التي أُوقن أنّي عرفتكِ بها لأفنيتُ عمري لأجلكِ، دعينا من هذا ليس موضوعي الآن، لكني أخبركِ برجاءٍ لا تعودي إلىٰ هُنا فالأماكن لم تعد كما كانت، والألم يستوطنُّ النّاس، لا تعودي وانتظِريني".
أغلقتُ الرسالة بدهشةٍ من ذا الذي يعرفني، إلىٰ أين أعود، وما الذي يقول؟ ألف سؤال وَسؤال قمتُ بكتابةِ رد من أسطرٍ عدة لكن ردي لم يصل، حاولت مِرارًا أن أرسل ردًا، أن أسأل لكن دُون جدوىٰ، لوهلةٍ فُزعت، تأملتُ حولي أين أنا، وإلىٰ أين لا أعود؟ لرُبما عليَّ أن أنتظر رسائل البريد فقط ألا أحاول التفكير فلي نصيب مِنه لم ينفذ بعد.
تذكرتُ ذاك اليوم كنا في نزهةٍ عائلية نضحك بحبٍ نُعانق السحاب، ضحكات هسترية وحكاوي نسمعها للمرةِ الألف بشغفِ المرة الأولىٰ، حينها زارني الفضول لأتساءل: "حين يذكر اسمي ما الذي تتذكرونه" اللامُبالاة، القُوة، قلب قطني، الابتسامة، الشَخصية الغامضة ... تذكرتُ إجاباتهم نعم حِين يُذكر اسم كاورلينا يذكر اللامبالاة، لِمَ هذهِ المرة أبالي، أُحدق بالهاتفِ مِرارًا أنتظر بريدًا آخر ليشبع جوع فضولي، لستُ متطفلة لكني أحتاج من يسد رمق إجاباتي، انتظرتُ أيام حتىٰ نسيت موضوع البريد لأستيقظ في ذلك اليوم علىٰ بريد لولا أنّي رزينة العقل لقمتُ بحركاتٍ سخيفة كحركاتِ المُراهقين من السعادةِ فتحتُ البريد بشغفٍ كبير هذه المرة لأقرأ.
"الأشياء التِي ننتظرها بشغفٍ لا تأتي، حين يخفت انتظارها تأتي تمامًا كما حصل معكِ، كنتُ أعلم أنّكِ تنتظريني كما طلبتُ منكِ، ليتني حقًا أتوقف عن إنتظاركِ كي تأتين، لتبتسمين قليلًا، قليلًا فقط لتهدأ كل كوابيسي، لا عليكِ كيف حالكِ وأنتِ بعيدة عن أرضنا؟ مررتُ بجوار منزلكِ أزهار البابونج قد ذبلت لم يعتني بها أحد، لو أنَّكِ تعودين لنُزهر".
انتهيتُ من قراءةِ الرسالة لم أستطع إيقاف أدمعي ليست لأحرفهِ الغريبة فقط ولا للدفءِ الذي في عُمقها، بل لأنّي أشتقتُ لأعود لستُ أدري أين أنا، وحيدة هنا، حتىٰ الرياح تُخفيني، أيعقل ألا أنتظر رسائله كي تصلني؟ أتأملني بإحباطٍ شديد هذه المرة لن أنجو، عليَّ أن أتذكر كيف استيقظتُ هنا، لكن دون جدوىٰ لا فائدة كل شيء يُعديني للصفر لا أتذكر لا أتذكر.
"يا الله: كَكُلّ ليلة بنفس الحُبّ وذات الدعوة أنتَ الذي تعلَمُ ولا أَعْلَم عبدُك الذي أسلَمَ وسَلَّم يا الله ذات الدعوة بذات الشَّغَف ولكن بقلبٍ باتَ العَزمُ فيه أوضَح لَم يُهزَم بعد ولن يهدمه عُمرٌ بأكمله لكنّها يا ربُّ نُدوب الزَّمان وقسوة الحياة وألفُ شَيْءٍ تَعلَمُه، وأنا"
فضًلًا وتكرّمًا -لا أمرًا- أرجو منكم مساعدتنا في إغلاق هذه الفاتورة لإحدى المعارف، معلقةٌ منذ سبع سنوات بسبب مبلغ ليس بالعظيم، لنكن سببًا لانفراج كربتها بعد الله
نقدر جدًّا مساهمتكم بنشرها إن لم يتيسَّر لكم الدعم المادي، ولا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن كان ضئيلًا لعلها تكتب بميزان حسناتكم، وتكون سببًا لتيسير أموركم..
في آخر لحظات المساء يسرني أن ألقي عليك التحية وأقول لك:ها هو الليل قد أتى يجر أذيال الخيبة كالعادة ويصر إلا أن يزيد همومي وأشجاني،وكأنّ ذكرى فقدك ليست كافية،إنّ روحي العليلة لا تنفّكُ تذكرك وتذكر أيام الأُنس والسرور التي كانت معك،ومما بلغ بي من الوجد والهيام أنني بتُ أراكِ في كل مكان أنظر إليه إنّ هذا البعد قد آلم قلبي وجسمي وكل جوارحي وكم أود لو تعودين مرةً أخرى لتعود حياتي إلى ما كانت عليه من الاستقرار والفرح والسعادة،إنني يا عزيزتي منهكٌ جدًا كنت أعاني من أمورٍ كثيرة قبل رحيلك ولكني كنت أتصبّر لأنك معي ولكن عندما رحلتِ كان ذلك أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير فانهار كُلي وصرت فكأنني كما قال ذلك الشاعر: وما كان قيسٌ هُلكهُ هُلك واحدٍ ولكنه بنيان قومٍ تهدما! كذلك كنت لقد خلف رحيلك جرحٌ بروحي لن يندمل أبدًا مهما دارت السنون وتتابعت سيظل طيفك يلاحقني أنّى توجهت وارتحلت ولن استطيع أن أتجاوز هذا الأمر مهما حاولت فمحاولة نسيانك هي أشبهُ بنزع روحي،أنا ما أحببت الوجود وما رأيت الجمال إلا عندما عرفتك كما سبق وقلت في رسالة سابقة أنتِ من يعطي الأشياء قيمتها والأشياء لا تكون لها قيمة إلا إذا قارنتها بك حتى الورد مثلا لا يعتبر جميل إلا إذا أهديتك إياه والقهوة التي تعشقينها حتى صرت أغار منها أحيانًا لا تكون جميلة إلا عندما تشربينها وكما قال الشاعر: ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى لما كنتُ أدري علةً للتيممِ!
إنني يا عزيزتي أموت كل يوم من حزني على فراقك وبعدك فهذا البعد قد أخذ مني كل شيء وأخفى ملامحي الحقيقية،وعكر صفو حياتي التي كانت جميلة جدًا بقربك كم اشتاق إلى تلك الأيام التي كنا فيها سويًّا لقد كانت أيامًا لجمالها لازالت ذكراها عالقة في ذهني لم ولن تزول أبدا،لقد كنتُ أحبك وسأظل أحبك بكل ما أوتيت من طاقة.
تبًا لهذا البُعد الذي لم يترك في جسدي مكان إلا وغرس خنجرة فيه!