يوم وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في
سجن القلعة بدمشق سنة ٧٢٨هـ
كما شهدها الحافظ الإمام ابن كثير رحمه الله
وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها، وتكلم به الحراس على الأبرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئا، ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة.
وكان نائب السلطنة سيف الدين تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة وباب القاعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا حوله يبكون ويثنون.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه. وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا فيها إلى آخر اقتربت الساعة ﴿إن المتقين في جنات ونهر - في مقعد صدق عند مليك مقتدر﴾ (القمر) فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب، وعبد الله الزرعي الضرير وكان الشيخ يحب قراءتهما فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثم شرعوا في غسل الشيخ، وخرجت إلى مسجد هناك، ولم يمكث عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع، فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثم عطفوا إلى باب الناطفانيين وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح.
ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السنة! فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ. ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصا لا يتمكن أحد من الجسود إلا بكلفة، جوا الجامع وبرا الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ونوى خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف.
فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين بن الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافتة كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن:
هذا العالم.
وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين. وكانت دار الخلافة. ثم دفن عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحدا حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره، ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاث أنفس: وهم ابن جملة، والصدر، والقحفازي، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث أنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس.
وبالجملة؛ كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطيء ويصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري:
(إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهو مأجور. وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.
📚 ـ
البداية والنهاية للإمام ابن كثير رحمه الله 📚 ـ
https://t.center/Stoory52