قد تختلفُ الأشياء، وتموج، تأتلفُ وتختلف، غير أنّ المعنى واحد، الحياةُ واحدة، والموتُ نفسه لا يتغير.. ما الذي يدفعُ إنساناً أن يختارَ الموتَ في وقتٍ تُنتزع فيه الحياة، ما حقيقةُ أن تحيا بالموت، تختارُ الموتَ كي تحيا، كي تبقى في الحد الفاصل بين خلود المعنى وفنائه.. بالمعنى الذي أبقى الشهيد حيّاً حين اختار الموت؛ وعلو المعنى وخلوده.. ما قلبٌ مملوءٌ بالإيمان؛ بين الأشلاء، ما زفافُ الشهداء، ما ارتقاءُ الروح صُعدا، ما اقتسام الخبز اليابس بابتسامة نصر، ما الدنيا؟ ما تراقص جثث الأحياء على رائحة الموت، ما ارتجاف اللذّة العمياء فوق ركام الدم، ما قلبٌ مملوءٌ بالوحشة تحت أنينِ الصّمت، ما الخوف بين اثنين تقاسما الدنيا، بل ما الدنيا؟ المعنى لم يتغير، تغيَّر الإنسان وتغيرت الطريقة، فأُلْف الدنيا موتٌ، وبرود القلب موتٌ، وسكوتُ الفم موتٌ، لكنَّ الموتَ لا يعد موتاً.. لا يكتمل الإنسان إلّا حينما يموت.. اللهم خلِّد ذكري، أدم أثري، ارفع بالحق قدري.. كمِّلني بالموت
أتعرفُ؟ إنّ الموتَ رَاوِيَةُ الفتى يقول: لحقٍ، أم لباطلٍ انتمى
يعيشُ الفتى مهما تكلَّم ساكتًا فإن ماتَ، أفضى موتُه، فتكلما..
غدًا يموتُ المرءُ .. وينكشف عنه كلُّ هذا الزَّيف، ويرى كلَّ أمر على حقيقتِه، ويكتشف أنَّ هذا الذي أنفق فيه عمرَه ترابٌ فوق ترابٍ، وأنَّ هؤلاء الذين أرضاهُم بسخط ربِّه سبحانه ترابٌ يمشي على تُرابٍ. ولم يبقَ له إلا أعمالٌ مسطورة في صحيفتِه، فالنَّاس: فَرِحٌ ومحزون، قائلٌ يقولُ: «ربّ ارجعون لعلي أعملُ صالحًا فيما تَرَكْت»، وقائلٌ يقولُ: «الحمد لله الذي أذهبَ عنَّا الحَزَن». طاشَ هذا الترابُ الذي شُغِل به، ورجَحَ الميزانُ بركعاتٍ وإحسانٍ وبـرٍّ وصدقةٍ وبكاءٍ قد تقبَّله الله سبحانه بقبولٍ حسَنٍ بفضله ومنته ... فقد عرفتَ .. فاعمل.