قصة 5: "ذاكرة الرمال المتحركة"
"سر الشمس والسراب"
الصحراء تمتد بلا نهاية أمام عينيّ. سماء قاحلة، ورياح تحمل معها حبيبات رمل لا تهدأ. كل شيء حولي صامت إلا تلك الأصوات التي تحاول دفني في هاوية من الأسئلة. في هذا المكان، كنت أعيش بلا معنى، محاصرًا بين الواقع والأحلام التي تلاشت مع مرور السنين. تلك الأحلام التي كبرت معها، وتحولت مع الوقت إلى أشباح تطاردني كل ليلة. كان الناس في القرية يقولون إنني بلا قيمة، إنني مجرد واحد من أولئك الذين سيُنسون مع الزمن.
كنت أستيقظ كل يوم على صوت الصراعات التي لا تنتهي؛ بين الناس، وبين قلوبهم الممزقة بسبب الحياة التي ألقت بنا في قاع النسيان. كان من حولي غارقين في صمت الرمال المتحركة، تلك الرمال التي تسحب كل ما تلامسه إلى عمق الظلام. ومع كل خطوة كنت أخطوها، كنت أشعر أنني أبتعد أكثر عن نفسي، عن ذلك الشخص الذي كان يحلم بشيء أكبر.
لا أستطيع أن أنكر أن الشياطين كانت تنتظرني عند كل منعطف، تزرع في رأسي أفكارًا عن الاستسلام. "ليس هناك سبيل للخروج، أنت عالق هنا،" كانت تهمس في أذني كلما حاولت الوقوف. وشيئًا فشيئًا، بدأت أصدق تلك الأصوات. بدأت أشعر أن الرمال لا تبتلعني فقط، بل أنها تطمس هويتي، تسرق مني كل أمل.
لكن في يومٍ ما، وبينما كنت أسير على حافة القرية، بعيدًا عن كل تلك الوجوه التي لم تعد تعنيني، ظهر لي شيء لم أكن أتوقعه. نسمة غامضة، باردة بشكل غريب في هذا الجو الحار، حملت معها شيئًا غريبًا. كان هناك ضوء، ضوء منبثق من أعماق الرمال نفسها، ضوء جعلني أتوقف في مكاني وكأن الزمن قد تجمد.
من خلال ذلك الضباب الرملي، ظهرت صورة. لم أكن أستطيع تمييزها بوضوح، لكنها كانت تشبه طيفًا من النور. كان الرجل واقفًا هناك، كأنه جزء من الصحراء نفسها، لكن بوجوده، كان كل شيء من حولي مختلفًا. كان ينظر إليّ بعينين مليئتين باليقين، لكن كان فيهما شيء آخر، شيء يتجاوز الفهم البشري. كأنه كان يعرف كل شيء عني، عن كل ما عشته، وعن كل ما سأكونه.
"رشيد..." قال لي بصوت هادئ وعميق، "هذه الرمال التي تخشاها ليست عدوك. إنها انعكاس لكل ما دفنته في داخلك. لا تبحث عن مخرج من هذه الرمال، لأن النجاة ليست في الهرب... بل في المواجهة."
شعرت حينها بأن شيئًا ما بدأ يتغير داخلي. لم تكن كلمات الرجل مجرد نصيحة، كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت كشفًا. كأنني أرى حياتي من جديد، ولكن بعينين مختلفتين. في لحظة، أدركت أن تلك الرمال التي كانت تسحبني لم تكن سوى مرآة لعزيمتي المدفونة، التي حاولت نسيانها، لكن لم تكن قد ماتت.
ابتسم الرجل برفق، وكأنني فهمت ما كان يجب عليّ فهمه طيلة هذه السنين. "إصرارك، رشيد، هو ما سيجعلك تخرج من هذه الرمال. لن تستطيع أن تهرب من هذا المكان، لأن هذا المكان ليس سجنك، بل هو مدرستك. ستنجو عندما تدرك أنك لم تكن ضائعًا أبدًا، بل كنت في طور الاكتشاف."
وفي اللحظة التي غاب فيها الرجل عن نظري، شعرت بقوة هائلة تجتاحني. لم تعد الرمال تبدو كعدو، بل كاختبار. لم يعد اليأس يتحكم بي، بل أصبحت كل خطوة أخطوها تشعرني بأنني أخف، وأقوى. اكتشفت أن العزيمة، التي كنت أظنها قد ماتت مع الأيام، كانت تنتظرني في صمت النجوم المظلمة، حتى أكشف عنها.
وفي تلك اللحظة الغامضة، بينما كنت أقف أمام الحقيقة الجديدة التي انكشفت لي، ظهرت من بين الرمال المتحركة قارورة صغيرة. كانت تلمع تحت الشمس وكأنها مرسلة من قلب الزمن، مليئة بشيء أعمق مما يمكن للبصر أن يراه. تقدمت نحوها بحذر، أحسست بها تدعوني، كأنها تعرفني منذ زمن طويل. التقطتها بيديّ المتعبتين، وعندما فتحتها، كانت تحتوي على ورقة صغيرة لم تكن تظهر عليها أية كتابة.
أمسكت بالورقة متفحصًا، حتى ضربتها أشعة الشمس الحارقة، وشيئًا فشيئًا بدأت الرموز تظهر، كلمات غامضة لم أفهم معناها في البداية، لكنها بدت كأنها مرسلة لي وحدي. كانت الرسالة تحمل معانيها بين طيات النور، لا تُقرأ إلا في لحظات المواجهة مع الشمس الحارقة. وعندما كان يحين الليل، تختفي الكتابة، وتبقى الورقة صامتة، كأنها جزء من السكون المحيط بي.
كل يوم، كنت أخرج القارورة مع طلوع الشمس، وأتأمل تلك الرموز المحفورة بحكمة خفية. لم يكن الأمر يتعلق بفك شفرة الرسالة فقط، بل كان شيئًا أعمق، كأنه اختبار لصبري وثباتي. وفي كل مرة كنت أقترب من فهم شيء جديد، كنت أشعر بأنني أقترب خطوة نحو النور.
أصبحت القارورة هدية القدر التي أخرجها كل يوم مع شروق الشمس، وكأنها بوصلتي التي تقودني عبر الصحراء. مع كل يوم يمر، ومع كل شعاع يضرب الورقة، كنت أفهم المزيد عن نفسي، وعن الرحلة التي كنت أخوضها. لم يكن الغموض في الرسالة وحده ما أسرني، بل تلك الرحلة التي كنت أسيرها مع كل حرف يظهر تحت الشمس، ومع كل رمز ينكشف لي شيئًا فشيئًا.