"أرجوك يا أبي أن ترجع لكي تستعيد كرسي السلطنة الذي تركته لي، فأنا ما زلت صغيرًا على تقلد هذا المنصب الكبير، فإذا كنتَ أنت السلطان فتعال وادر أمور دولتك، وإذا كنتُ أنا السلطان، فإني آمرك أن ترجع لتدير أمور السلطنة!" (محمَّد الفاتح)
كان الألم يعتصر قلبي عندما استوقفني شابٌ عربي لكي يسألني إن كان اسم "مراد" اسمًا عربيًا أم لا!! وكان سبب شعوري بالألم يكمن في ثلاثة أسباب: سببٌ منها خاص بي شخصيًا، والسببان الآخران يخصان حال الأمة بأسرها، أما السبب الخاص فهو أن اسم "مراد" بالتحديد هو اسمٌ عزيزٌ على قلبي، فهذا الاسم هو الاسم الذي يحمله الأخ الوحيد الذي يصغرني سنًا من بين تسعة إخوة! أما السبب الثاني لشعوري بالأسى هو إدراكي بمدى ضعف شباب هذه الأمة باللغة العربية، لغة القرآن، لغة محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمراد هو اسم المفعول من أراد يريد، وهو المطلب والمبتغى، ومراد هو أبو قبيلة من العرب الأقحاف، وهو مراد بن مالك بن زيد بن كَهْلان بن سَبَأ بن يشجب بن يعرب أبي العرب العاربة أصل العرب!! أما السبب الثالث لشعوري بالأسى فهو إدراكي لمدى الجهل الذي يعانيه شباب هذه الأمة بتاريخهم، فمراد هو اسم لبطل إسلامي عظيم أنجبته أمة محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو السلطان مراد الثاني بن السلطان محمَّد الأول بن السلطان بايزيد (الصاعقة) رحمهم اللَّه أجمعين. وسبب اختيار لهذا الرجل ليكون ضمن قائمة المائة هو أن هذا الرجل يعتبر قدوة لكل الآباء في هذه الأمة التي آن لها أن تستفيق من سباتها، فكم رأيت خلال إقامتي في أوروبا شبابًا في عمر الزهور قضى عليهم آباؤهم بإهمالهم لهم وانشغالهم بجمع الدولارات، ولا أنسى دمعة ذلك الشاب العربي المسكين الذي قال لي والأسى يعتصر قلبه أنه كان يتمنى لو أن أباه قد علّمه شيئًا من كتاب اللَّه، فقد تركه والداه بدون أن يعلِّماه شيئًا من العربية، بل إن ذلك الشاب كان يتمنى أن لو علمه والداه نطق الشهادتين! وبطلنا السلطان مراد الثاني لم يصنع من ولده طبيبًا لكي يُكتب اسم أبيه بجانب اسمه في العيادة، ولم يعلم ولده التجارة لكي يدير له المصنع بعد مماته، ولم يقضِ حياته يدرب ابنه على الخلطة السرية لأحد أطباق الطعام لكي يطمئن على مطعمه الشهير بعد مماته، بل قام السلطان العظيم مراد الثاني بصناعة رجل! فصناعة الرجال هي التي تخلد الإنسان! فكم سنا يعرف اسم جدِّه السادس؟ أو جدِّ جدِّه؟ أو حتى اسم جدِّ أبيه؟ فالذي يخلد سيرة الإنسان في الدنيا إنما هي أعماله، وإن لم تكن أعماله فهي أعمال أبنائه الذين كان هو من صنعهم! فمن كان يعتقد أن العظماء يُولدون عظماء فهو واهم غارقٌ في وهمه، فالعظمة ما هي إلا نتاج تربية الأهل ورعاية المجتمع وتحصيل الشخص نفسه وفوق ذلك كله توفيق اللَّه، والذي لا يعرفه الكثير عن محمَّد الفاتح الذي فتح الآفاق ونشر الإِسلام في ربوع الأرض وأجاد الشعر واللغات والأدب والهندسة، لم يكن في طفولته إلا طفلًا مهملًا يستحق أن يوضع في مدارس الأحداث لو كان في زماننا هذا، فهل تركه والده السلطان مراد على حالته تلك؟ وهل أخذ يلوم زوجته على سوء تربيتها لولده؟! لقد جلب السلطان مراد المعلمين من جميع أرجاء السلطنة لولده الصغير, ولكن الأمير المشاكس محمَّد الثاني استمر في استهتاره، وأخذ يهرب من الدروس لكي يلهو ويلعب، فذهب السلطان مراد الثاني إلى شيخٍ كبير اسمه الملا الكوراني (وهو لا يمت بأي صلة للكوراني، العالم الشيعي المعاصر صاحب نظرية تحريف القرآن!) وأعطى السلطان مراد الثاني الملا الكوراني قضيبًا ليضرب به ابنه إذا شاغب، وفعلًا نجحت التربية المرادية، فتربى محمَّد الثاني خير تربية على يد الشيخ الكوراني، فحفظ القرآن، ونظم الشعر، وأتقن اللغات، وتعلم فنون القيادة من أبيه الذي كان يأخذه معه إلى المعارك ليتدرب فيها إدارة الأزمات، وفي الوقت الذي لا يستأمن فيه معظم آبائنا أولادَهم حتى على أمور المنزل، نرى أن السلطان مراد الثاني استأمن ابنه محمَّد على الإمبراطورية بأسرها وهو صبي صغير، بل وتنازل السلطان مراد الثاني لولده عن السلطنة في حياته ليدربه على الحكم، وليتفرغ هو للعبادة، ليصنع منه ذلك الفارس البطل، ولتكون جميع فتوحات محمَّد الفاتح في ميزان أبيه البطل صانع الانتصار الحقيقي السلطان العثماني البطل مراد الثاني رحمه اللَّه، وليكون مراد بذلك هو الفاتح الحقيقي لمدينة هرقل. وبعد. . . . كان هذا أنموذجًا رائعًا عن دور الآباء في صناعة نهضة الأمم، ولكن ماذا عن دور الأمهات؟ ماذا عن دور الزوجات الصالحات؟ ولماذا يعتبر دورهن أهم بألف مرة من دور الآباء والأزواج في صناعة الرجال؟ أعتقد أن الوقت قد أزف لكي نبحر قليلًا في بحار عظيمات أمة الإِسلام اللائي خلّدهن تاريخ هذه الأمة بصفحاتٍ ذهبية كتِبت سطورها بمدادٍ من ماء العيون! يتبع. . . . . . .