هذا الصّباح ، وبعد ما حدَث في مدينة ود مدني البارِحة ، وكمية الفزع التي إنتابت الناس عقب ذلِك ، وتحت أزيز طيران الإستكشاف الحربِي الذي لم يتوقّف عن الطوفان فوقَ الولايَة بأكملها ، وفوق منطقتنا التي تبعُد عن مكان الأحداث مسيرة 45 دقيقَة شرقاً ، نحن بعيديِن ولم نُصَب بأيّ أذى -حتى الآن- الحمدُ لله ، ولكِن إلى متى؟ ، وما الذِي سيحدُث تالياً؟ لا أحد يعرِف ، وعلى تمام حُسن الظنِ بالله بأنه أياً ما سيحدث فإن أقداره كلها خَير.
وجدتنِي أتساءل فجأة ، أن من يضمَن أي شئ في هذه الدُنيا فهو أحمَق ، من يضمن تمام الأمان ، كمال الصحّة ، وجود الأهل بالجوار ، سقفَ البيت الذي يحِب ، بقاء الأماكن على حالها لا تشيخُ إلا بفعل التضارِيس ومرور الزمَن .. ليسَ إن كانت هنالك حرب تندِلع في عضوٍ ما على نفس الجسَد ، لأنه عندما يبدأ الأمر بشرَارة صغيرة لو لم تُخمَد في حينها فسيؤول إلى الإنفجَار.
مرات كثيرَة جلستُ قلِقةً أمامَ أحداث الخرطوم الفظيعة أتابعها وقلبي في يدِي وفي اليد الأخرى كوب الشاي ، ومرةً أخرى توقفتُ مستندةً على المكنسَة لأن خبراً ما عن أحداث غزة إقتلع قلبي من مكانه ولكنني واصلتُ بعدها تنظيف المنزِل ، ومرات لا تُحصى جلسنا نتابِع مجريات الأمور أمام الشاشة بترقّب حول ما يحدث للناس في نفس البلد الذي نعيشُ فيه بينما نتناول الغداء أو نأكلُ تحليةً جديدة قامت والدتي بإختراعها كالعادة .. بينما يصدُر والدِي تعليقاً على أحد الأشخاص الذين تستضيفهم قناة العربية -التي لا أحبها على الإطلاق- في حين يحمل ملعقته الخالية التي توقفت في منتصف الطريق إلى الصحن : (ده واحد عواليق ساي ، كوز كبير) ، فتعقِّب أمِي بحيادية لا تدعَم أيّاً من الطرفين بينما تمضغُ رقائق الموز التي تصرّ على إضافتها لكل أطباق التحالِي : ( الله ياذاهُم بشتنوا البلد وشرّدوا الناس ، الله ينتقم منهم كلهم) ، ويتدخّل أخي الصغير ليشارِك في الحِوار بقصّة مؤلمة سمعها من أحد رفاقه الجُدد الذين نزحوا إلى منطقتنا عقب الأحداث الياها..
بطريقةٍ ما ، الحياة مستمِرة ، ليست في بيتنا فحسب ، بل في كل البيوت الأخرى التي لم تطأ الحرب عتبة بابها بعد ، يشتمون الحكومة ويلعنون النظام ، ويعيشون عمرهم يوماً بيوم بصعوبة بالِغة بسبب مآلات الحرب وإنقطاع أرزاقهم ، ويضعون الآمال على أنها بعيدة ولن تصلهم أبداً .. تماماً مثلما كان يعتقد كل من عاشوها.
إنه أمان ، ولكن أمانٌ هَش ، يمكِن أن ينهار في أيةِ لحظة بسبب أوامِر موجّهة من قائد غبي وعشوائي إلى كتيبته التي تفوقه غباءً وعبثاً.
مشكلة الحرب هي بغتتها ، هجومها المفاجئ ، تغيِيرها للمشهَد من مألوف إلى كارثي بين ليلةٍ وضحاها
للحرب وطأةً وثِقلاً لا يعرفه إلا من عاشها ، ومهما شاهدتَ أو سمعت من الحكايا والمآسي ، ومهما تضامنتَ أو تألمت فلن يساوي ذلك شِعور من عاشوها بأنفسهم.
اللهُم إنا نعوذُ بك من فواجع الأقدار ومن خرابِ الديار ، ومن فراق الأحباب.
أسأل الله أن يحمينا ويحفظنا ، ويحفظ السُودان وأهله ، ويضرب الظالمين بعضهم ببعض ، ويمنّ علينا بالأمن والأمان ، فقد أنهكتنا والله هذه البلاد وإبتلعت أعمارنا بين إنتظارٍ وعودة ، وكَرٍ وفَر.
#عن_أشياء_كثيرة (27)
#مريم_الشيخ