الأخبار ستصيبك بالجنون.. اقرأ القرآن.. كثيراً.. في هذه الأيام لن تنجو بدونه.. في هذه الأيام أنت محتاج لتصحيح نظرتك إلى كل شيء، ولا شيء يصحح نظرتك مثل القرآن. كل مخاوفك وقلقك سببها سوء ظنك بالله.. وسوء ظنك إنما هو ناتج عن قلة معرفتك به.. كيف تحسن الظن بمن لا تعرفه؟ اقرأ القرآن لتتعرف عليه؛ كل كتب الأسماء والصفات وكل الكتب جميلة؛ ولكن مَن تعرّف على الله من خلال كتابه وكلامه يعرف الفرق بينها وبينه.. في القرآن ستعرف ربّاً يعدد لك مظاهر قدرته وعظمته.. كيف ينزل الماء ويزجي السحاب ويحيي الأرض.. أتظن الذي يقدر على إنزال الماء من السماء سيعجز عن إنزالها من صنابير بيتك الذي انقطعت عنه المياه؟ تراه قد قدّر في الأرض كلها أقواتها ونوّع أصناف ثمارها وأنشأ جناتها.. ثم تنظر حزيناً إلى طعامكم الذي بدأ ينفد ويتسرب إلى نفسك القلق؟ ومن الذي كان يرزقك قبل الحرب؟ ومَن يدبر الأمر؟ أتراه تغيّر؟ لا والله.. وإنه لا يزال المكرم المنعم.. بل أزيدك أنك إن لم تسخطه بسخطك عليه فانتظر منه الأفضال والهبات.. فلطف الله يتنزل على أهل البلاء! تعرّف عليه في القرآن.. كيف ينصر جنده وينجي عباده المؤمنين.. كيف يهلك الظالمين.. اقرأ القرآن.. لتعود الدنيا في عينيك إلى حقيقتها.. في الحجم وفي المدة.. فهي في الحجم لا تستحق منك كل هذا الأسى، فما هي إلا متاع قليل زائل.. وهي في المدة أيضاً لا تستحق كل هذا الهم.. فغداً نقول أننا لم نلبث إلا ساعة من نهار.. فهل يستحق الأمر إهلاكك لنفسك بكل هذه التفاصيل؟ ولكن اقرأ القرآن.. وانظر إلى الجنة.. انظر إلى دارنا ومستقرنا بإذن الله.. عش هناك وعلق قلبك بها فهي الحقيقة وكل هذه الدنيا سراب! اقرأ القرآن وانظر كيف تُبتلى الرسل.. ثم تكون لهم العاقبة والتمكين.. كيف يحفظ الله المؤمنين، وتذكر أننا مؤمنون وأن الله لن يضيعنا وأنه معنا.. فلا تحزن! اقرأ القرآن لتعرف مجددا ما هي مهمتك في هذه الحياة، ما هي أولوياتك وما هي الأشياء التي تستحق أن تبكي على فواتها.. اقرأه لترى أجر الصابرين.. وتصبّر فالدرب طويلٌ.. لا تستسلم لحزنك الآن.. ليس بعد.. إن مع العسر يسرا.. إن بعد الصبر نصرا..
"لكنني أعلمني جيدا.. ما إن تهدأ ساحة الحرب قليلاً سأتفرّغ لنفسي.. وتتفرغ لي.. وعندها لن تعرفني! لن تعرفني يا رفيقي من شدة البكاء والألم.. ذلك لأني سأخرج مخزون شهور كاملة.. شهور رأيت فيها الموت والمطاردة والفقد والدم والأشلاء والدموع وصراخ الأطفال ونحيب الأمهات وعجز الرجال.. لكنني كنت أركض من ساحة إلى ساحة بلا رحمة.. أركض كالمجنون.. وما إن أقف.. لن تعرفني! لكم أخاف من تلك اللحظة أخي.. وددت لو أظل أركض حتى الموت هرباً من أن أقف.. هرباً من أن أتحدث إلى نفسي.. هربا من أن أستدعي شريط الذكريات المؤلم".
"فالإنسان -كما وصفه به خالقه- ظَلُومٌ جَهُول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميلُه وحبُّه ونَفْرتُه وبُغضُه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه؛ فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصاً له؛ فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيراً له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته؛ فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له".
نتصرف وكأن الرخاء هو الأصل وأن الابتلاء هو الاستثناء.. رغم أننا كلنا نعلم أنها دار ابتلاء! ولكنه وهم الاستقرار الذي يعمي العيون والقلوب.. لو لم تكن الحروب والابتلاءات كثيرة لما أكثر الله من ذكرها في كتابه.. ولو كانت الحياة كلها رخاءً فأين الصبر الذي يمتلئ القرآن بذكره؟ كلما زادت حاجة الناس للأمر ازداد وضوحه في كتاب الله.. لذا لا سبيل الآن سوى الصبر.. ثم إن الأمر كله لله.. فأما النصر.. فمن عند الله العزيز الحكيم وأما الثبات.. فيثبّت الله الذين آمنوا وأما الموت.. فالله هو الذي يحيي ويميت وأما كل ما يصيبنا.. فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. وأما الشهداء فهم في الجنات فرحين مستبشرين.. وأما البلاء: [يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض].
تجلس تردد أذكارك.. ليس عندك شيء ثابت سوى هذه المعاني.. لا تثق في شيء سواها.. أما الدنيا من حولك.. فلا شيء في صدرك تجاهها سوى الخواء.. كل المشاعر ساذجة.. كل الفرح ساذج.. وكل الحزن ساذج.. ولا شيء سوى التوجُّس والترقُّب.. مستبشر أنت.. ولكن لديك شعور أنك لو نظرت نحو الباب رأيت أياماً مخيفة تطلّ برأسها.. لكن لا بأس.. ألم تكن تدعو الله أن يصنعك؟ ها هو يصنعك بالبلاء كما كان يصنعك في زمن الرخاء.. ولا يحزنك سوى نفسك التي تتفلّت منك الآن وتثبت لك أنك لم تكن متين البناء كما تظن.. ثم في النهاية ليس لك سوى أمنية واحدة.. أو أمنيتان ربما... إن عشنا أن ننجو من الفتن ونثبت على الإسلام.. وإن متنا أن نموت على الإسلام.. وكل ما سوى ذلك هيّن..
تغسل يديك.. المياه باردة لدرجة الألم.. تخرج لبعض شأنك.. الهواء بارد لدرجة الخدَر.. تتدثر بثيابك.. الثياب واهية وترتجف تحت بطانياتك.. يكاد يأخذك سيل الأسى ثم تذكر أنك رغم كل ارتجافك لا تزال في سوريا.. ولست في غزة.. هناك من يرتجفون ارتجافاً يفوق ارتجافك.. كيف يحتمل إخوانك ذلك؟ كيف يحتمل أولئك الأطفال تلك المياه الباردة إلى حد الألم؟ كم خداً بريئاً سالت عليه دموع من البرد والألم؟ كلما تعرضتَ للبرد اضطربت أمعاؤك وظللتَ مريضاً حتى تستعيد دفئك.. كيف يستعيدون دفئهم وبماذا يقارعون الأمراض؟ حق عليك أن يكونوا بعد مرور مئات الأيام قد صاروا شيئاً لا تنساه.. تذكر جوعهم مع كل لقمة تأكلها.. بردهم في كل مرة تحس بالدفء.. خيامهم في كل مرة يداريك فيها بيتك.. وتذكر أن في غزة أُناساً تحسبهم أفضل منك ومن ألف من أمثالك يعانون كل هذا.. ولسان حالك كلسان حال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الأثر: في صحيح البخاري أن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، أُتِيَ بطَعَامٍ وكانَ صَائِمًا، فَقالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وهو خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ في بُرْدَةٍ، إنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ، بَدَتْ رِجْلَاهُ، وإنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ - وأُرَاهُ قالَ: وقُتِلَ حَمْزَةُ وهو خَيْرٌ مِنِّي - ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا ما بُسِطَ - أَوْ قالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا ما أُعْطِينَا - وقدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ.
من أكثر ما يغير الوحي نظرتك إليه: الكون من حولك. جمهرة من آيات المطر البديعة.. المطر لا يزال بديعاً في عيون الشعراء والأدباء والبسطاء.. لا يزال يدغدغ مشاعر الناس بقطراته.. لكنّ الاعتياد -كما يفعل دوماً- سرعان ما يجرّده من معانيه لينقلب مجرد سائل ينزل من أعلى. لكنك في القرآن تراه بشكله الحقيقي: معجزة! شيئاً عجيباً يستحق كلما رأيته أن تتفكر.. كيف لهذه السحب في السماء أن تتجمع بعضها فوق بعض وتتمخّض لترى هذا الودق يخرج من خلالها؟ كيف ينزل سبحانه هذا الغيث من بعد ما قنطوا؟ وكيف تتعلق به الأفئدة العطشى فتتطلّع إلى السماء لترتوي.. وهكذا كل عطش لا يرتوي إلا من السماء. ألّا ترى المطر نتاجاً لتفاصيل تدرسها العلوم المتعلقة بالطقس والمناخ فقط، وشيئاً نقرأ عنه في النشرة الجوية.. ولكن.. ولكن.. تلك رحمة الله ينزلها على عباده.. كلهم.. البر والفاجر المطيع والعاصي من سألها ومن لم يسألها.. يغمر الله الأرض برحمته ويوصلها إلى أصغر مخلوقاته.. فكيف برحمته في الآخرة التي ادخر لها تسعةً وتسعين ضعفاً من هذه الرحمة في الدنيا.. تمد يديك لتلتقط حبات المطر وتحسر عن قلبك ليناله المطر.. فهو حديث عهد بربه.. ولا تملك إلا أن تتنهد وتنظر وتقول: (فَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ ءَاثَـٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ).
"هذه نصيحتي إليك يا بنتي، وهذا هو الحق فلا تسمعي غيره، واعلمي أن بيدك أنت لا بأيدينا معشر الرجال، بيدك مفتاح باب الإصلاح، فإذا شئت أصلحت نفسك وأصلحت بصلاحك الأمة كلها".
لعل في هذه المقالة شيئاً من الذكرى وشيئاً من الواعظ..
"ونحن نُهاجَم اليوم من طريقين: طريق الشبهات، وطريق الشهوات، والأول مرض أشد خطراً وأكبر ضرراً ولكنه بطيء السريان، فليس كل من تُلقى إليه شبهة يقبلها، ولكن كل من تثار له -من الشباب- شهوة يستجيب لها، فهو مرض سريع الانتشار كثير العدوى، وإن كان يُضني ولا يُفني ويُؤذي ولا يُميت. والأول كفر والثاني يوصل إلى الفسق".
كثيرة هي الآيات في القرآن التي تأمر بالنظر إلى تفاصيل السماء والأرض، والليل والنهار، والنجوم والزرع.. وتدبرها وتأمُّل خلقها، فكأنك تأتيك رسالة مفادها: لو أنك تأملت هذا الكون حق التأمُّل ونظرت إليه حقّ النظر لعرفت ربك ولَكنتَ موحّداً له.. بتدبُّر آيات الكون فقط! ويتخيل الإنسان أن يكون ذلك هو المطلوب من البشر حقاً: أن يصلوا إلى الله بأنفسهم بعد كل هذه الآيات الكونية الباهرة؛ ولكن أليس الله أرحم الراحمين؟ لا يتركهم ولا يذرهم مع شياطين الجن والإنس يذهبون بهم يمنةً ويسرة ويفسدون فطرتهم.. بل يرسل الرسل وينزل الكتب كالشهب تحرق هذه الشياطين.. وما الرسل إلا مذكّرون.. وما الكتب إلا ذكرى.. تذكّر الإنسان بتلك الحقائق المركوزة في نفسه أصلاً.. وبذاك العهد الذي أخذه الله من ذرية آدم أن يعبدوه ويوحّدوه.. ثمّ إذا سمع الإنسان وتلا آيات ربه القرآنية الشرعية، بات قادراً على إبصار الآيات الكونية وربطها بخالقها.. وحينها برحمة الله وببركة رسله وكتبه يبصر الإنسان دربه الموصل إلى جنة ربه.