فجاه لاقيت المُدرِس اللي دايمًا بيتريق عليا ويحسسني إني أقل من صحابي في كُل حاجة واقف قُدامي وبيضحك وهو مشاور عليا وبيقول:
- وإنت نفسك تكون إيه لما تكبر بقي يا خالد؟
" فضلت أبص يمين وشمال ولاقيت صحابي كُلهم مركزين عليا، فـ وقفت وقُلت:
= نفسي أكون دكتور قلب كبير ومشهور وأعالج كل الغلابة ببلاش.
" بص عليا وفضل ساكت وفجأة لاقيته إنفجر بالضحك، وشاور علي واحد صاحبي وقال:
- طب يوسف أبوه مُهندس وهو عايز يطلع مُهندس زيه.
"وشاور علي بنت"
- وآية باباها دكتور مشهور في الجامعة وهي نفسها تكون زيه.
"وراح مقرب مني جامد وهامس في ودني:
- إنت قولتلي باباك شغال إيه؟
" قلبي بدأ ينبض بسرعة وإتوترت، فـ بلعت ريقي وقُلت:
= بيطلع كل يوم الفجر ويقعد علي الطريق واللي بيحتاجُه في أي شُغلانة بيروح معاه.
فـ راح مخبط علي كتفي وقال:
- إنت شكلك موهوم يابني، فـ نصيحة مني لو حِلِمت في يوم، إحلم حِلم صغير، ها!!
حلم صغير أوي علي قدك يا خالد.
"العصفور لما يتقص جناحُه وهو صغير، مستحيل ييجي عليه يوم ويطير فوق السحاب".
في اليوم ده فضلت سهران طول الليل ومن كُتر التفكير ماعرفتش أنام، فـ رُحت أتسحّب بِراحة علي أوضة أبويا وأمي علشان مايصحوش، وأول ما وصلت حطيت راسي فوق قلب أبويا وأنا عمال أعيط وكاتم صوتي بالعافية، وبفكر في كلام المُدرس السلبي، وخايف أوي إن القلب ده يُقف لإن أبويا قالي لو وقف هيموت ومش هيكون موجود معانا.
فـ روحت مطبطب علي قلبه وقُلت وانا بهمس:
- مش هيقف يا حبيبي ماتخفش ولما أكبر هعالجهولك.
في اليوم ده أخدت قرار إن مِن وانا لسه في إعدادي هحوش كل مصاريفي وأجيب كُتب جراحة قلوب وهفضل اقرأ فيها لحد ما أبقي دكتور قلب كبير وأعالج كل قلب موجوع وماحدش حاسس بيه.
ودخلت أوضتي ومسكت قلم ألون وكتبت علي الحيط:
"طول ما أحلامك في طوعك
كمّل وإمشي لـِ قُدام.
مش نهاية الكون وقوعك.
النهاية في الاستسلام."
واليوم يجيب أسبوع والشهر يجيب سنة وطول الفترة دي مابعملش حاجة غير إني بذاكر وبقرأ في الكُتب اللي بشتريها وبس.
"مع كل أول نبضة لقلب طفل لسه خارج للدُنيا، بيكون فيه قُدامها ضريبة إن واحد قلبه ينبض نبضتُه الأخيرة"
وجِه اليوم اللي أبويا هو اللي دفع فيه الضريبة دي، وراح جمب أكتر حد حنين وهيحس بالوجع اللي كان في قلبه وهيعوضُه كل خير.
ساعتها ماكنتش عارف أعمل إيه، وحسيت إن كُل حاجة عملتها رجعِت للصِفر، فأخدت ولاعة ودخلت أوضتي وحطيت كُل كُتب الطب وولعت ورقة علشان أرميها وسطهم.
بس عيني جت علي جُملة:
"طول ما أحلامك في طوعك
كمّل وإمشي لـِ قُدام.
مش نهاية الكون وقوعك.
النهاية في الاستسلام."
في الوقت ده افتكرت لما قُلت للمُدرِس:
إني هعالج كل الناس الغلابة ببلاش، وافتكرت كمان أبويا وإنه قد إيه هيفرح لما يشوفني بعمل كدة، وبريح الناس من وجع كان تاعبُه.
فـ طفيت الورقة وخرجت ناحية المدرسة الإعدادي اللي كنت فيها وسألت علي المُدرس اللي كان بيتريق عليا، ولما عرفت إنه في حصة دخلت الفصل اللي موجود فيه من غير إستئذان ووقفت قدامه.
= أنت ليه ما سألتنيش عن السبب اللي خلاني أقولك أنا عاوز أطلع دكتور قلب!!
"فِضِل ساكت ومستغرب مِن الموقف وكلامي".
"فبصيت في عينيه بغضب"
= أبويا اللي كنت بتتريق عليه كان مريض قلب، وبرغم ده كله كان بيخرج كل يوم يشتغل ويشيل فوق طاقتُه علشان يوفرلي رغيف أقدر أعيش منه، يوفرلي فلوس أقدر أتعلم منها، كان بيعلمني إزاي أطلع راجل في وقت الرجالة فيه بقت مُجرد كلمة بتتكتب في البطاقة.
أيوة زي البطاقة اللي في جيب حضرتك دي بالضبط.
أنا موجوع، وجوايا كراهية الدنيا كلها من ناحيتك، ومن ناحية كل واحد مُتنمر بيهد في طموح وشغف غيره، كراهية لكل شخص معدوم الإنسانية كل تفكيره إن ابن الدكتور بيطلع دكتور، والمهندس لازم إبنه يكون زيه، وأي حاجة غير كدة لا.
أنا دلوقتي جايلك مكسور وقلبي موجوع ومليان نار، وبقولك إن من رَحِم الوجع والكلام السلبي بيتولد النجاح والمُعجزات.
أنا جايز ماقدرش في يوم إني أعالج القلوب بـِ الطِب زي ما أنت قولتلي، بس واثق إني هقدر أعالجها حتي لو بكلمة حلوة تطيّب بخاطرها.
في اليوم ده مشيت وسيبته وقررت إني بدل ما بتعلِم وبذاكر الطب بس، لا أنا هشتغل كمان وأصرف علي أمي اللي مابقاش حد ليها غيري..
كنت شوية ببيع مناديل، وشوية بقول عسلية سمسمية وأنا ماشي في القطر، اشتغلت في كل حاجة تقريبًا،
صحيح خسرت كتير من صحتي وطفولتي.
بس كسبت نفسي ورجولتي وفهمت كلام الراجل العجوز لما قال:
- إن الدنيا دانية وفانية، وإن الله مع الصابرين.
وفجأة وفي غمضة عين
عدِت الدنيا وسرقت مني سنين وسنيييين.
ودلوقتي قاعد في جنينة المستشفي
ويبدأ العد التنازُلي قبل ما أتِم مِن عُمري السِتين.