وفي هذا الحديثِ يقول النَّبيُّ ﷺ: «*والَّذي نَفْسِي بيَدِه*» وهو قَسمٌ كان رسول الله ﷺ كَثيرًا ما يُقسِم به، فاللهُ عزَّ وجلَّ هو الَّذي يَملِكُ الأنفُس بالإحياء والإماتة، «*لو لم تُذْنِبوا*» أي: لولا وُقوعُكم في الذُّنوب، لَخِفت عليكم ما هُو أكبر مِن ذلك، أَلا وهُو العُجْبُ، ولَكُنتُم كالملائكة، وإذا وقع ذلك لَأذْهَبَكم الله وأفْناكم، «*ولَجاءَ بقَوْمٍ يُذْنِبونَ*»، وفي رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ: «*لَخَلَقَ اللهُ خَلقًا يُذْنِبونَ*» أي: أتى الله بخَلق جَديدٍ غيْرِكم مِن جِنسِكم، أو مِن غَيرِكم يَقَعون في الذَّنْبِ؛ فيَستغْفِرونه ويَتوبون، فيَغفِرُ لهم ذُنوبَهم لِأجلِ تَوبتِهم تلك.
وحاصل هذا الحديث أنَّ اللهَ تعالى سبق في علمه أنَّه يَخلُقُ مَن يعصيه، فيَتوب، فيَغفِرُ له؛ وذَلكَ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ مِن عَبدِه مقام العُبوديَّة الَّذي هو مُنتَهى الذُّلِّ مع مُنتَهى الحُبِّ، *وَليس* في الحَديث مُواساة للمنهمكين في الذُّنوب، وإنَّما فيه بَيانُ عَفوِ اللهِ تعالى وتجاوزه عن المُذنبينَ التَّائبينَ؛ ليَرغَبوا فِي التَّوبة إلى الله فيَتُوبوا، وليُبَيِّنَ النَّبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ سبحانه كما يُجازي الُمحسنين بِإحسانِهم فإنَّه يَعفو ويَصفح عن المُذنِبين.
اللهُ يُحِبُّ التَّائبينَ ويَدعو عِبادَه إلى التَّوبةِ ويُرَغِّبُهم فيها، فيَتوبُ على مَن تابَ ويَغفِرُ الذَّنْبَ، ويَصبِرُ على العُصاةِ حتَّى يَتوبوا بالنَّدم على الذُّنوب والمَعاصي، مع الرُّجوع إلى اللهِ وطَلَبِ العفوِ والمغفِرةِ منه سُبحانه، مع النِّيَّةِ الصَّادقةِ لعَدَمِ العودةِ إلى الذُّنوبِ والمَعاصي.
قال ابن القيم رحمه الله: هو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئته، وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدى لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو. فسبحان من لا يوصل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه، ومعونته، فعاد الأمر كله إليه، كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول، والآخر، وأن إلى ربك المنتهى. [طريق الهجرتين /ص: 30].
واللَّه سبحانه وتعالى يُحبُّ من عبده أن يَرجُوَهُ؛ ولذلك كان عند رَجَاء العبد له وظنِّه به. والرَّجاء من الأسباب الَّتي ينالُ بها العبد ما يَرجُوهُ من ربِّـه، بل هو من أقـوى الأسباب.
" لمّا كان من العوائد القدريّة ، والحكمةِ الإلـٰهية ، أنّ من ترك ما ينفعه وأمكنه نفعه به ولم ينتفع به ؛ ابتلي بالإشتغال بما يضرّه ، فمن ترك عبادة الرّحمن ؛ ابتلي بعبادة الأوثان ، ومن ترك محبّة اللّه ، وخوفه ، ورجائه ؛ ابتلي بمحبّة غير اللّه ، وخوفه ، ورجائه ، ومن لم يُنفق ماله في طاعةِ اللّه أنفقه في طاعة الشّيطان ، ومن ترك الذُّلَّ لربّه ؛ ابتليَ بالذُّلّ للعبيـد ، ومن ترك الحقَّ ؛ ابتليَ بالباطل " .
« السّعدي - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان - سورة البقرة . آية(١٠١) »
«من تأمَّل أسماء الله وصفاته وتعلَّق قَلبُه بها طرحه ذلك على باب المحبَّة، وفَتَح له من المعارف والعلوم أمورًا لا يُعبَّرُ عنها!
فمحبَّة الله هي قُوتُ القلوب وغذاء الأرواح وقُرَّةُ العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنُّور الذي من فقده فهو في بحار الظُّلمات، والشِّفاءُ الذي من عُدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللَّذَّة التي من لم يظفر بها فعيشُه كُلُّه همومٌ وآلامٌ.
قال يحيى بن أبي كثير: نظرنا فلم نجد شيئًا يتلذَّذُ به المتلذِّذون أفضل من حُبِّ الله تعالى وطلبِ مرضاته.
قال ابن تيميَّة: ليس للقُلوب سُرورٌ ولا لذَّةٌ تامَّةٌ إلَّا في محبَّة الله والتقرُّب إليه بما يحبُّه، ولا تمكنُ محبَّتُه إلَّا بالإعراض عن كُلِّ محبوبٍ سواه، وهذا حقيقة لا إله إلَّا الله».
الناس في حبِّ الله يتفاوتون ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم إلى أدنى الناس درجة، مثل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وما بين هذين الحدين من الدرجات ما لا يحصيه إلا رب السموات والأرض.