في الحافِلة، جلستُ أمام امرأةٍ معها طفلٌ رضيع في يدها وأمتِعة، فأجلستْ ولدها الثاني في المقعد الخلفيّ لضيق المكان.
كان الطفلُ الجميل يجلس وحده بقرب النافذة حتى غلبه النوم، فنام مسنِدًا رأسه الصغير على شباك الحافِلة.
وفجأةً! استيقظ مع وقوف الحافلة لتُنزِل راكبًا، فوقف فجأةً مذعورًا خائفًا كدنا نسمعُ دقّات قلبه، يُحدِّقُ بكل الراكبين واحدًا تلو الآخر.
لم يقل شيئًا! لكننا كلنا فهمنا فزعه، فقلنا له مشيرين لأمّهِ: حبيبي هاهي ماما لم تنزل، فصرف بصره مباشرةً إليها، فلما رآها وتأكّد أنها لم تنزل وتنسَهُ، اطمئن قلبه وابتسم، ثم جلس ونام مرّةً أخرى.
فالتفتُّ عنه وقلتُ في قلبي:
هو يحبها كل هذا الحبّ، يخاف أن تتركه! وهو لا يعلم أنها تحبه أضعاف حبِّهِ لها.
أوَ يُعقلُ أن تتركه؟!
أوَ يُعقَلُ أن تنزل مثلًا وتنساهُ؟!
يستحيل!
وحدها الأم، ولو تغيّر ولدها وقلَّ حبُّهُ لها، هي لا تتغيّر، ويبقى الحبِّ في ازدياد حتى الممات.
ثم تذكّرتُ شيئًا شفَّ قلبي: تذكّرت أن الله أرحم بعبده من الأم، بكل هذه الحنوِّ من ولدها.
أوَ يعقل أن يظن عبدٌ أن الله يتركه؟ أن يلجأ إليه ثم لا يجيبه؟
أن يعبده ويحسن صنعا ثم يتخلّى عنه وهو خلقه في قابل الأيام؟
واللهِ لو لم يحبنا ما خلقنا ليسعدنا بعد أن كنا تُراب!
أوَ يُعقل أن يحرمه شيئًا يحبُّه إلا لأجل الخير له ولمصلحته، ولأنه يختار له أكثر ما يسعده في آخرته ولو خفيت عنه الحكمة؟
كل هذا الحنوّ، وفيض الحب الذي نحسه في حياتنا، الله أحب وأرحم بنا.
راحمٌ بالحزن الذي تخفيه عن العيون ويسري في شرايينك مسرى الدم، راحمٌ بدمعتك، بحرارة دعوتك، بغصّتك بلوعتك بافتقارك إليه وانكسارك وحاجتك.
راحمٌ بعباراتك التي لا تعرف كيف تصوغها للناس، ولن تجد من يشعر بأنينها، راحمٌ بارتباكك بعثرتك بتكرار توبتك.
يا الله...!
فقط لو تلمّسنا رحمته، وعلمنا من هو الله، لهمنا به سبحانه حبّا.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ:
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟
قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا).
نور عدنان الزرعي