ثم قفلَ راجعًا، مزدحمًا بالكلماتِ لدرجة الصمت!
ممتلئًا لدرجة أنه لم يجد قلبًا يحمل ضخامة ما يُحِسّ.
أدمنَ الصمت، وعيناهُ لا تصمتان أبدًا، فكلما كتم باحت عنه، عن خواطره، مشاعره، دروبه، تجاربه وحيرته.
تحسبهُ ثابتًا متكلِّمًا مبتسمًا، وهو يمر مر السحاب بين الورى.
في بعض الساعات، يعود للصمت، مرهفًا يتنفّس ويحاكي الطريق الطويل، يميل قلبه مع الشجر، ويتساقط منه أشياء مع ورق الخريف، ويفوح إحساسًا كورد الياسمين، ويرقّ حتى تخدشه نظرة!
لا يقرع بابًا يشكُّ أنه قد يُفتَح أو يوصد في وجهه، ولا يشكو همًّا لمن يحسُّ أنه لا يرغب بسماعه، ولا يطلب حاجة إلا بتقليب وجهه في السماء من رب السماء بنظره قبل تكلّمه.
مدمنُ الوحشة ولو كان بين الزحام، يستوحش من الخلق ولو خالطهم لمصالح الدنيا وأشغالها، باكيًا قلبه دومًا من فرط الحنين، والحب يتدفّق من قلبه المرهف لله، ولو في منتصف أحاديثه يغلبه الحنين حتى يشفُّ دمعه عن مكنون صدره، ولو في منتصف خلطته وانشغاله مع الناس لا يشغله عن لمولاهُ شيء.
مشى...
متفكّرًا بالبعد، منذ متى لم أرفع يدي للدعاء؟
ما هذه الجفوة أيا قلب!
وتذكّر كل التقصير، والذنوب، والمآل والحنين رغم وابل النِعم.
عبدٌ!
من فرط ما عجنته التجارب ما عاد يملأ قلبه إلا الله، وما عاد يميل إلا إحسانًا ولطفًا للخلق، بينما هو لله فقط.
الحب
التفاني
الشوق
الحنين
فقط للرحمن.
حتى انتهى نحو مسجدٍ فطار قلبه مع صوت الأذان للملأ الأعلى وقت الغروب، ورفَّ لله.
دخل المسجد بعد غياب تلو غياب، ملّ الدنيا ومن وما فيها! فضمه المسجد، وضمّده المسجدُ من كل الآلام، ووضَّأهُ بالنور فأضاء بعد أن كان قد انطفأ!
وفي زاويةٍ وحده لا يعرفه أحد ولا يعرف أحد سوى مالك البيت الذي هو فيه سبحانه (وأنّ المساجد #لله...).
لقد أُغرِمَ بكل ما له علاقة بمولاه، من سُبحته وسجّادته ومكان خلوته ودعوته وقرآنهِ.
(...إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله...).
وتدفقت أنوار الأنس، وماجت فيه الروحانيات تتخلل عتمتهُ، حين أتى الله يمشي أتاه هرولة، وحام حوله دفء غريبٌ من جبر اللقاء، وسجد وقام معافى، وخفّ الطين فيه، وسمت الروح.
هذي المساجد غار حرائنا، هذي المساجد موعد الفتح والانطلاق.
ثم رفع يديه ظانًّا أنّ عينيه أدمنتِ القسوة والجفاف! فما إن تذكّر لطف الله به وبأيامه، وكيف صنعه، وكيف غمّده بالنعمِ بكى...
وأبكى قلبهُ معهُ.
ثم أرسل لله كلمات أخفى من دبيب النمل، وشعر أنه مهما تطاول بكلماته حمدًا وثناءً تبقى غثاء!
فلا شيء يليق بالملِك سبحانه.
وخرج!
وكان بودّه لو يبقى، لكن هذه المساجد لتزويد الروح أنوارًا، وغسيلها من الذنوب، لنخرج بعد ذلك لظلام العالم، ننشر فيه الأنوار التي قطفناها في المساجد بعد الخلوات، ونهدي التأثير بحروفٍ شفّها تلاوة القرآن والذكر والمناجاة.
خرج وبقي المسجد في روحه بطمأنينته وسكينته ورُوعه، وكأنه مأذنة المسجد المتحرّكة خرجت بيننا تقول للناس: لا تنسوا الله أكبر من همومكم وأحزانكم وذنوبكم وعجزكم.
ولا تنسوا أن تعودوا إليه.
عبدٌ مِزَاجُهُ الحنين.
الحنينُ لمولاه أينما وكيفما يمَّمَ وجهه.
نور عدنان الزرعي