«بمقدورِ المَرء أن يقطعَ الكرة الأرضيَّة سيرًا وراءَ فكرةٍ يرى النَّجاحَ من ورائِها، على أنَّه قد يستثقلُ حملَ كوب ماءٍ، فقط لأنَّه خُذِل؛ ولا يستلزم أن يأتي الخذلانُ من الخارج، قد تكون أنت من خذلت نفسَك، هذا الاستثقال والتَّباطؤ درجاتٍ أو دركات -ضعْها في أيِّ خانةٍ ارتأيتَ!- قد يأتي في لحظاتٍ ما ثمَّ يختفي، وقد يُطوِّقُ الأفئدة فترجعُ القهقرى!».
«إذا حقَّقْتَ مُدَّةَ الدُّنيا لم تجدها إلاَّ الآن الذي هو فصلُ الزَّمانين فقط. وأمَّا ما مضى وما لم يأتِ فمعدومان كما لم يكُن؛ فمَن أضلُّ ممَّن يبيعُ باقيًا خالدًا بمُدَّةٍ هيَ أقلُّ مِن كَرِّ الطَّرف؟!».
من أعظمِ شُعَبِ العلم (حفظُ العلمِ في الصُّدور) كما قال ربُّنا:﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾، ولو لم يكُن في فضلِ حفظِ العلمِ إلَّا بَركةِ دُعاءِ سيِّدي رسول اللّٰهﷺ لكفى: «نَضَّرَ اللّٰهُ امرأً سمعَ منَّا حديثًا فحفِظَه حتَّى يُبلِّغَه».
من تأمَّلَ اللَّيلَ والنَّهارَ الذي نعيشُ فيه، وكيف نتقلَّبُ في أيَّامه، ثمَّ رأى قسمَ اللّٰهِ سُبحانه بهذا الزَّمن ﴿وَالعَصرِ﴾ امتلأَ قلبُه بإدراكِ شرفِ (الزَّمن)، وأنَّه في كلِّ ثانيةٍ ودقيقةٍ وساعةٍ يُنفقُ من (رصيدٍ زمنيّ) منحَهُ اللّٰهُ إيَّاه، وكتبَه الملكُ حين كان جنينًا عمره أربعة أشهر!
لا شيء ساكنٌ في حياتك، أنت في كُلِّ لحظة تنفقُ من رصيدك الزَّمنيّ، فإمَّا أن تشتري به علمًا وعملًا رابحًا، أو يذهب في التَّرقُّب والتَّفرُّج في صفقةٍ خاسرة!
وأين تجدُ في كلامِ المتأخِّرين مثلَ قولِ عُمر -رضيَ اللّٰهُ عنه-: «فَوَاللَّهِ ما هو إلَّا أن قد شَرَحَ اللَّهُ صَدرَ أبِي بَكرٍ -رَضِيَ اللّٰهُ عنه-، فَعَرَفتُ أنَّه الحَقُّ»، ومثلَ قولِ عائشة -رضيَ اللّٰهُ عنها-: «يا رسولَ اللّٰهِ إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ أَسيف، وإنَّه متى ما يَقُم مَقامَك لا يُسمِعُ النَّاس»، وقولَ عُمر بن عبدالعزيز عن العُلماء: «وليفشوا العِلمَ، وليجلِسوا حتَّى يَعلَمَ من لا يَعلَم، فإنَّ العلمَ لا يَهلِكُ حتَّى يكونَ سِرًّا». وما أشبهَ ذلك!
ولعلَّك حينَ لا ترى في هذا الكلامِ مُفردةً مُستغربة، تحسبُ أنَّه كلامٌ سهلُ الصِّياغة، في مُتناولِ من يقصدُه من الكَتَبَة، والحقُّ أنَّه ممتنعٌ على سهولتِه، لا يُسلمُ قيادَه إلَّا لذي خِبرةٍ ودُربة.
تكوين المَلَكة اللُّغويَّة | د البَشير عصام المُرَّاكشي.
والسَّلَفُ الصَّالحُ هم أئمَّةُ الدِّين، وفَهمُهُم للوحيَين إمامُ الفُهوم، وهم فوقَ ذلك -في الغالبِ الأعمِّ- عربٌ أقحاح، أو متعرِّبون في عصورِ الفصاحة، التي لا يُقبَلُ فيها اللَّحنُ من صاحبِه، ولا يُعذَرُ متكلِّمٌ في الدِّينِ بعُجمتِه. ولذلك بلغَ كلامُهم الغايةَ في الأخذِ بمجامعِ البلاغة، مع صِحَّةِ المعاني وقِلَّةِ التَّكلُّفِ فيها.
تكوين المَلَكة اللُّغويَّة | د البَشير عصام المُرَّاكشي.