أعلم أنكم تحبون القصص، فلكم اليوم مني جمع منها، ولجميعها بداية مألوفة، ونهاية غير معروفة، تبدأ قصصنا ببيت حوى زوجًا وزوجةً، وربما أولادًا، يستعينان على مرور الدنيا بالله ثم ببعضهما، ينسجان آملاً وأحلامًا لهما، ثم ترميهم نوائب الزمن بأشأم زوار ليل، وأخس قطاع طرق، فيفرقون شملاً قد جُمع، وبيتًا قد عُمِر، ثم يبدأ للقصة فصل آخر.
تجاوزوا سنوات من هذا الحدث، فنرى فيها الزوج قد غُيّب في غياهب السجون، وسُلِّم لمستقبل غير معلوم، أكلت الأيام روحه وجسده، وغزا الشيب سواد شعره أو غمره، يُدافع يأسه كل ساعة أمله، أما الزوجات فكلهن اشتركن في نزاع الوحدة، وغياب الأنيس، وسرقة العمر، وتكالب المهام، وتراكم المسئوليات، وتواري الأنوثة، وهنا تختلف المشاهد في هذا الفصل وتتعدد، فمنهن من تنسحب في بدء البلاء وتفارقه، ومنهن من تتصبر مدة وتجاهده، ثم تعلم أنها لا طاقة لها بالاستمرار فتنفصل، والذي يعنيني هنا وله سطرت كلماتي النوع الأخير، بطلة القصة، تلك الصابرة المثابرة التي تحملت عظم الشدة، وغالبت طول الشقاء، فأنا لم أسمع عنهن لأرويَ خبرهن؛ بل قد رأيت ذلك وعاينت.
دعكم مني فأنا أخفهن بلاءً، وأفضلهن حالاً، قد رأيت أمس أم علي تسوق أمامها حقائب بحجمها، تخبرني أنها سهرت ليلها كله لتحضر ألذ وأشهى ما يحبه زوجها ويفضله، وأعجب حينما أعلم أنه محكوم عليه بثمانية عشر ومائة عام، كما قرأتم ١١٨ سنة المفترض أنه سيظلها في سجنه، فكم من عمره سيسع تلك السنوات؟ وأي حب يجعلها تبقى في انتظاره؟
وصفية التي تسهر على جمع الرسائل وتنسقها، وتتم عليها، وتخبرنا بالمسموح والممنوع، كريمة معطاءة للجميع، وقد عرفت مؤخرًا أن زوجها محكوم عليه بالمؤبد.
وعن سارة التي عُقد عليها، وأتمت السنوات الخمس في انتظاره، ولم يخرج لها بعد، ولا تعلم متى سيخرج.
وعن أم محمد التي قد شارفت على الخمسين؛ تقطع مئات الكيلوهات، ذهابًا وإيابًا منذ عدة سنوات ـ فقط ـ لرؤية زوجها دقائق معدودات.
وعن الأخرى التي تُقاسم اللقيمات بين أبنائها وزوجها، ويحدها رقة الحال، وضيق اليد، فتذخر كل رغيبة لزيارته.
أرى حالهن قبل دخول الزيارة وما يعلوهن من رهق وشعث، يحاولن مُداراته، ولكم وقفت على أدمع لهن قد تسللت خفية، لا أدري تعبًا أم حزنًا أم الاثنين، فيسرعن في تمويهها، ليلقين الأحبة مستبشرات، فلا يكدرن صفو اللقا.
وحقًا قد رأيت هناك حُبًا على غير المألوف في هذا الباب، حُبًا قد غابت عنه أخبار الكتب، وزهدت فيه سير العاشقين، صبابة في كلماتهم، وعشقًا في نظراتهم، وصبرًا وإحسانًا في ثباتهم، وحرصًا على فتات الوصل، فقد تخال أنه بانصرام أيامهم قد ذهب غرامهم أو دخله النقص، فتراهم لا يزدادون به إلا حبًا. وقلت أحكي أنا ما شاهدت، علني أوصل عَبراتٍ لا تُرى، وأَنَّاتٍ لا تُسمع، عساها تستحث دعاء حارًا، تُفتح له أبواب السماء، ويجمع الله بينهم.
وفي هذا الآف القصص، ففك الله كربهم جميعًا، ولأمهات وأخوات وأبناء الأسارى فلهن تخصص قصة يطول سردها.
أما أنت أيا بطلة القصة، فأعلم عن دمعتك وحيدة قبيل الأعياد، وفي كل مناسبة ينبغي فيها حضوره، وأعلم حيرتك في أهم أمورك، وتخبطك في اتخاذ قرارتك، وعن سحق المسئوليات لك، وضغط التغيرات عليك، وأعرف أيضًا أنك ذُقت ألمًا جديدًا وهو ألم الشوق، ووشك البَيْن، وأسمع حديثك لنفسك إلى متى؟ ألهذا العناء نهاية قريبة؟ أمن الممكن أن نجتمع؟
ولكن أيضًا الله يرى ويسمع، فلن يضيع سبحانه أي نصب أو هم لك، بل أذكرك ونفسي أنه من يرد الله به خيرًا يُصب منه، وأن الدنيا دار بلاء، والحمدلله أن جعل لنا بلاءً في وسعنا، وبلاءً في دنيانا لا ديننا، وبلاءً لله أولاً وأخيرًا، وأمّلي في الله وحده الجزاء والعوض لا غيره.
ولا يخفى عليك حال الدنيا، فقد طبعت على كدر، فإن حَلت لك في أمرٍ، أَوحلت في أمور، أما الفراق فمن عادات الأيام وطباعها، لانستطيع رده، بل نهيأ الأنفس له، والحمد لله أنك مع غائب يُرجى رجوعه، أوتعلمين فأنت الآن بضعفك هذا قوته، وأنك سند نفسي هائل يتكأ عليه، وعدته وعتاده يتجلد -بعد الله- بك، ويقوي آماله بطيب جمعكم القريب.
ولعل الله أراد بك خيرًا، فكما تعلمين أن هناك عبادات لا تستخرج إلا بالبلاء، إذ به يعيدك الله إليه، ويخلي قلبك له، وتدعوك شدة الحاجة إلى الإلحاح له، ويلجأك فقدان السند إلى الركون إليه، وغياب الأنيس إلى الأنس به، وإلى تسليم كل أمورك له، ولتدركي حقًا أن الله الوكيل، والقريب، والمدبر، واللطيف. فتعزي بالصبر الجميل.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظــــنان كل الظــــن ألا تلاقيــا
#إسراء.
#مِران_قلم