"إنك لَتَرَى الرجل يتلألأ جبينه تلألؤ الكوكبِ في جنح ليل مبرد، ويفترُّ ثغرُه عن الأنوار افترار الأكمام عن الأزهار، فتحسده على نعمته وسعادته، وتتمنَّى أنْ لو منحك الله ما منحه من هناءٍ ورغدٍ، وإنَّ بين جنبيه — لو تعلم — همًّا يعتلج، وقلبًا يَدِبُّ فيه اليأس دبيبَ الآجال في الأعمار، وكبدًا مقروحة لو عرضها في سوق الهموم والأحزان ما وجد من يبتاعها منه بأبخس الأثمان!"
ناداني خاطرٌ حزين، قال لي: "مقامك حيث أقامك! لا مكانَ لكَ اليومَ يا صاح إلا بمنزلة الاستغفار!" فصِرتُ أسمع صوتًا من أعماق فؤادي، يتكسّر موجُه هونًا على شط لساني: ربّ اغفر لي! رب اغفر لي!
حين يوفقكَ ربّك فيكون لكَ حزبٌ يوميٌ من كتاب الله، كما كان لأصحابِ رسولِ الله ﷺ أحزاب يوميّة من القرآن، فحين تنهي تلاوة وردك اليومي، فاحذر يا أخي الكريم أن تشعر بأي إدلال على الله أنّك تقرأ القرآن، بل بمجرّد أن تنتهي فاحمل نفسك على مقام إيماني آخر؛ وهو استشعار منّة الله وفضله عليك أن أكرمكَ بهذه السويعة مع كتاب الله، فلولا فضلُ الله عليكَ لكانت تلك الدقائق ذهبت في الفضول كما ذهب غيرها، إذا التفتت النفسُ لذاتها بعد العملِ الصالح نقصَ مسيرها إلى الله، فإذا التفتت إلى الله لتشكرهُ على إعانتهِ على العبادة ارتفعت في مدارجِ العبوديّة إلى ربّها ومولاها، وقد نبهنا الله على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾، وقول الله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾.