قصة 4: "نبوءة الرياح الهادئة"
من خريطة متعرجة، من ألوان الحياة التي لا تنسى، من هنا تبدأ قصتي.
في عالم يشبه لوحة فنية مشوهة، كان صراخ عائلتي يختلط بأصوات الرياح العاتية التي تهب من جميع الاتجاهات. كنتُ في وسط تلك الفوضى، مشدودة إلى فصول متتالية من الصراعات والآمال المكسورة. كنتُ الابنة الكبرى، والدرع الواقي لأسرتي التي لم تعرف السكون، ولم يكن لديّ سوى أمل متضائل في عالم يبدو خاليًا من الهدوء.
كان والدي غائبًا جسديًا وعاطفيًا، وأمي كانت مغمورة في دوامة من المشكلات التي لا تنتهي. كنتُ أشعر في كل لحظة كأنني عالقة بين فكيّ عاصفة هوجاء، أحاول أن ألتقط أنفاسي وسط الرياح العاتية التي تصفعني من كل جانب. وسط هذا الخضم، كنت أحلم بحياة مختلفة، حياة حيث يكون السلام هو السائد، لكنني كنت أكرر دائرة الفوضى نفسها التي حاولت أن أهرب منها.
الظلام كان ينسج خيوطه حولي، محاولةً أن تجعل مني ضحية جديدة للألم. كانت هناك لحظات عندما كنت أرى الظلال تتراقص حولي، كأنها تهمس لي بأنني لن أتمكن من الهروب. كنتُ أرى نفسي تغرق في البحر اللامتناهي من الصعوبات، حيث كانت كل موجة تكاد تجرفني بعيدًا.
ثم، فجأةً، في ختام أحد الأيام التي بدت بلا نهاية، جاءني شعور غريب. لم يكن الأمر مثل ظهور نور ساطع، بل كان أشبه بدفق من الهدوء وسط العاصفة. لم يكن مفاجئًا، بل كان تحولًا هادئًا في أعماق نفسي. شعرتُ وكأنني دخلت إلى مكان يتسم بالسكون، رغم أن كل شيء من حولي كان مضطربًا.
في تلك اللحظة، بدأت الأصوات تتلاشى، وتبددت ظلال الشياطين، حتى وجدت نفسي أمام رؤية غير متوقعة. ظهر أمامي مشهد لم أكن أتوقعه: حديقة سرية، حيث تتساقط أوراق الشجر في تناغم مع الرياح، وشلال صغير يعزف لحنًا هادئًا. كان هناك شخص جالس في وسط هذه الطبيعة الهادئة، ليس بملابس فاخرة، بل بلباس بسيط يوحي بالسكينة.
بصوت مريح مثل همسات الرياح، قال لي: "هيام، لم تكن الصراعات التي واجهتها عبثية. هي جزء من رحلة أعمق لاكتشاف قوتك الحقيقية. في عمق الألم، وجدت سكونًا لا يتوفر إلا لأولئك الذين واجهوا أعظم الصعوبات. لقد تعلمتِ أن السلام ليس مجرد غياب للفوضى، بل هو قوة تتولد من قدرتك على تجاوز المحن."
كل كلمة من كلماته كانت مثل نسمات دافئة تهدئ روحي المتعبة. أدركت حينها أن السلام لم يكن شيئًا يمكنني أن أجده في الخارج، بل كان شيئًا عميقًا في داخلي، مصدره قوتي النفسية وصبري الذي لم يتزعزع. لم يكن الأمر يتعلق بأن أكون محصنة ضد العواصف، بل بأن أكون قادرة على إرشاد الآخرين إلى السكون الذي وجدته في داخلي.
قال لي بصوت مليء بالحكمة:
"كل صراع، كل ألم، كان درسًا لتكتشفي السلام الذي تحمله. لقد قمتِ باكتشاف القوة التي تمكنك من أن تكوني مصدر سكون في عوالم مليئة بالاضطرابات."
عندما اختفى المشهد، عدت إلى واقعي، لكنني لم أعد كما كنت. كل تجربة، كل صعوبة أصبحت تذكرني بالسلام الداخلي الذي اكتشفته. الآن، أرى نفسي كنبراس للسلام، مصدرًا للأمل وسط الفوضى، وقوة هادئة في عالم متقلب.
منذ طفولتي، كانت الرياح من حولي لا تهدأ. لم يكن الأمر متعلّقًا بالعالم الخارجي فحسب، بل كان يخص العالم الذي بداخلي، عاصفة لا تهدأ، صراعات لا تُطفأ. ولدت في بيت مشبع بالصراعات، حيث كان الصراخ بين أمي وأبي جزءًا من اليوم. كنتُ صغيرةً حينها، لكنني شعرت أن هذه الصراعات ليست شيئًا عابرًا، بل كانت تثقل روحي، تترك في داخلي ندوبًا لا تُمحى.
كنتُ دومًا أحلم بشيء مختلف. تخيلت نفسي أعيش حياة هادئة، مليئة بالحب والسلام، عكس ما كانت تعيشه أمي. تخيلتُ زواجًا هادئًا، وحياة ملؤها الطمأنينة، لكن القدر له طرقه الخاصة في ترتيب الأمور، وكأنني كنت محكومةً بإعادة نفس الدائرة التي أحاطت بوالدتي. زواجي الذي كان ينبغي أن يكون ملاذًا، أصبح مرآة لما عاشته والدتي. صراعات، جروح، وألم مستمر، وكأنني لم أتعلم من تجارب الماضي.
كنت أشعر أن الشياطين تراقبني في الظل، تدفعني ببطء نحو حافة الانهيار، تحاول بكل الطرق أن تجعل الألم يسيطر على كياني، أن يلتف حولي كوشاح من ظلام، يحجب عني النور. كانت هناك لحظات أشعر فيها بالاستسلام، وكأنني قد غُمرت في عتمة لا مفر منها. لكن في عمق هذا الظلام، كان هناك شيء مختلف.
في قلب الألم، وسط العواصف التي تهدد بابتلاعي، كنت أشعر أحيانًا بنسمة خفيفة، هادئة، كأنها تتسلل عبر النوافذ الموصدة. لم أكن أعلم ما هي تلك النسمة، أو كيف استطاعت أن تجدني وسط كل هذا الضجيج، لكنها كانت تهمس لي بأن هناك شيئًا آخر بداخلي. شيئًا لم أكتشفه بعد.
ثم جاء اليوم الذي تغير فيه كل شيء. كنتُ في لحظة ضعف، لحظة استسلام، حينها تجلى لي نور من خلف غمامات حزني. بدا وكأن العاصفة قد توقفت للحظة، وكل شيء حولي تجمد. وسط هذا الصمت، ظهر لي رجلًا مهيبًا في رؤيا. كان هادئًا، عيناه تحملان حكمة لم أكن أستطيع إدراكها بعد. قال لي بهدوء، "هيام، ألمك لم يكن عبثًا. أنت مختارة.