يخبر القرآن عن أنواع ضلال الإنسان بمختلف صوره، ثم يخبرنا عن دقيق انفعال النفس في ارتقائها من حال إلى حال بما لا يوجد له مثيل، ووقوع هذا في القرآن على وجه لا يتأتى إلا لمن يعلم السر وأخفى، يعلم ما يجوب في هذه النفس من نزعات وإرادات وشهوة وكبر، ثم يخبرنا عن سعيها في التخلص من ثقل الحق، والوقوع في ورطة الهلاك، ورطة الهلاك !
إي والله ورطة.
قال تعالى: ﴿فذرهم في غمرتهم حتى حين﴾، جاء في حاشية الطيبي على الكشاف: (في غمرتهم) استعارة، شبه جهلهم بغمرة الماء إذا وقع فيها الشخص، فلا يدري كيف يتخلص منها، والجامع الوقوع في ورطة الهلاك ثم كثر استعمالها في هذا المعنى حتى صار كالمثل السائر في الشهرة ...)
وإن من أخزى الخزي أن يسعى المرء في هلاك نفسه، ومن ذلك ما وقع للوليد بن المغيرة.
قال الله سبحانه وتعالى:
{كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (١٦) سأرهقه صعودا (١٧) إنه فكر وقدر (١٨) فقتل كيف قدر (١٩) ثم قتل كيف قدر (٢٠) ثم نظر (٢١) ثم عبس وبسر (٢٢) ثم أدبر واستكبر (٢٣) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (٢٤) إن هذا إلا قول البشر (٢٥)}
قال ابن عطية:
ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته.
وورد أنه كان يقال للوليد: ريحانة قريش.
(وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهو كثرة الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه من قبله، وكان مرجع قريش في أمورهم؛ لأنه كان أسن من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به.) [الطاهر ابن عاشور]
ولما كان التقدير غاية التفكير، وكان التفكير ينبغي أن يهديه إلى الصواب فقاده إلى الغي، عجب منه فقال منكرا عليه معبرا بأداة الاستفهام إشارة إلى أنه مما يتعجب منه ويسأل عنه: ﴿كيف قدر﴾
..
ولما كان الماهر بالنظر إذا فكر وصحح فكره نظر في لوازمه قال مشيرا إلى طول ترويه: ﴿ثم نظر﴾ أي فيما يدفع به أمر القرآن مرة بعد أخرى، وفي ذلك إشارة إلى قبح أفعاله، فظهور الحق له مع إصراره فإن تكرار النظر في الحق لا يزيده على كل حال إلا ظهورا وفي الباطل لا يزيده إلا ضعفا وفتورا.
..
ولما كان هذا النظر على هذا الوجه أمدح شيء للمنظور فيه إذا لم يوصل منه إلى طعن، وكان ظاهره إنه لتطلب الحق، فكان الإصرار معه على الباطل في غاية البعد ..
[نظم الدرر، البقاعي]
قال ابن تيمية في شأن الوليد بن المغيرة
أنه كان: (.. من ذوي الرأي والقياس والتدبير من العرب وهو معدود من حكمائهم وفلاسفتهم. ولهذا أخبر الله عنه بمثل حال المتفلسفة في قوله: ﴿إنه فكر وقدر﴾ ﴿فقتل كيف قدر﴾ ﴿ثم قتل كيف قدر﴾ ﴿ثم نظر﴾ ﴿ثم عبس وبسر﴾ ﴿ثم أدبر واستكبر﴾ ﴿فقال إن هذا إلا سحر يؤثر﴾ ﴿إن هذا إلا قول البشر﴾.)
ومما جاء في سبب نزول هذه الآيات (أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - ﷺ -، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره ..)
( ..فلما سمع بذلك أبو جهل قال: والله، أنا أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالا وولدا؟! فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال الوليد: لقد تحدث بهذا عشيرتي! فوالله، لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} إلى قوله: {لا تبقي ولا تذر}).