إنّ ما ينساب في مدبّ الزمان متمهلا ألصق أثرًا وأبعد مكانًا عن النسخ والتحوّل، فالود حين يزكو على تريّث يداخله التعود وتشد حباله الألفة فلا ينقلب إلى البغض إلا نادرًا، كذا الموت إذا سرى في عروق مودة مع تراخي الأيام تمكن من وقدة الحياة فيها، ثم لم تبعث
من بعد رقدتها أبدًا. ••°••° ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا عقل العبد أن دنياه محض سفر؛ تخفف من الجموع تحرزا ، وجانب مواطن العطب، وتباعد عن حداة اللهو خوفا من التيه وتهمم بنجاته فحسب، فلا رجاء عنده إلا سلامة المقصد والوصول.
الصَّادق: ينتظر الفرج، ولا ييأس من روح الله، ويلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلًا مسكينًا مستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتَّة، ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ..
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام، فاعلم أنَّه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك ..
قال أبو العباس: دخل رجلٌ على الحسن بن سهل بعد أن تأخّر عنه أياماً، فقال: ما ينقضي يومٌ من عمري لا أراك فيه إلّا علمتُ أنه مبتور القدر، منحوس الحظّ، مغبون الأيام ..
فقال الحسن: هذا لأنّك توصل إليّ بحضورك سروراً لا أجده عند غيرك، وأتنسّم من أرواح عشرتك ما تجد الحواسّ به بغيتها، وتستوفي منه لذّتها، فنفسك تألف مني مثل ما آلفه منك ..
يبقى الأدبُ يصوِّرُ الخواطرَ، ويأسو الجِراحَ، ويؤلِّفُ بين الألسنةِ والقلوبِ حتى تتصافَحَ الأيادي ويعودَ البناءُ كما كان؛ أبيًّا لا يُنالُ، قويًّا لا يلِينُ.
والإنسان مُذ أهبِط إلى هذه الدنيا حتى يفارقها وهو في مجاهدةٍ يكابد سطوة التراب وعثرات الطين ومراصد الشيطان والتواءت النفوس وخبايا الأفئدة الموصدة على ما فيها من غيوب وسرائر! ومن كان في خفارة المعية ونور الهداية والاستعانة؛ فإن الله سبحانه وبحمده يتمم له نوره ويبلغه غايته.