نحن نعيش داخل صناديق محكمة الغلق، لا شيء يفتحها سوى قراءة فعالة. الإنسان غير القارئ منكفئ على عوالم نفسه. إنه مطمور في خبراتها، محدود بحواسها. وحدها القراءة من تفلح في جره لكي يخرج من هذه العوالم الضيقة في ذاتها المضيقة لغيرها، والانعتاق من قبضة الخبرات الضئيلة والحواس المحدودة.
حين تحصل على شهادة عالية كالدكتوراة، وحين تقطع من السنوات الكثير للتعلم .. لن يكون من المقبول أن تقدّم للناس فقط أقوال الآخرين وأفكارهم ورؤاهم "وفتاواهم" .. هذه يحسنها المتوسطون وربما بعض المبتدئين . ينتظر منك الإنشاء والاستدراك والتفريع والمعالجة والتطوير .. أو فاعلم أنك تهرول كل هذه السنوات مكانك!
الأفكار والمعارف التي ترد إلى عقلك كل يوم .. لن تكون نافعة لك حتى تكثفها وترسخها بالمراجعة والتأمل .. أما ما يمر سريعا فيذهب سريعا .. وهذا الفرق بين أهل العلم البارزين وطلاب العلم الراسخين وبين أصحاب ثقافة الساندوتش .
" والغيبة رسول الشر بين البشر، بل هي أس الشرور جميعها، قديمها وحديثها؛ لأن المرء إذا اعتقد من طريقها الشر في صديقه أو عشيره وملكته فكرة سوء الظن به أبغضه واجتواه، وحَذِرَه واتقاه، وكان لا بد له من إحدى اثنتين: إما أن يصارحه ببغضه، فتصبح حياته معه حياةً نكدةٌ لا نهاية لهمومها وآلامها؛ أو يماذقه ويداوره، فيصبح رجلًا منافقًا كذابًا، وخير له من هذا وذاك ألا يسمع عن الناس خيرًا ولا شرّاً "
بعض من برز علميا أو ثقافيا أو أدبيا . إذا فاتشته عن حياته، هل عرف الطريق من بدايته؟ . يجيبك أكثرهم وربما كلهم أن البدايات كانت متخبطة، لا منهج ولا بوصلة هادية .. مراوحات بين أصدقاء وسفر وقراءة مشوشة وعبث لا يتوقف .. ثم يأتي توفيقه سبحانه على يد أستاذ أو درس مؤثر أو تفكير عميق في ذلك الشتات والتضييع السابق . حينها تتبدل الحال، ويعرف صاحبنا الطريق السداد والجادة الصواب.. وما هي إلا سنوات قليلة ويعوض ما فاته وزيادة !
هذه القصة تحدث لكثيرين، وربما كان من الواجب بل الضروري أن تنتبه لها جيدا، فتتهيأ أنت أنت للفرصة والمغنم الذي لا يفوّت!
وجدتُ أن ترك مسافة بيني وبين من أحبهم وأعتبرهم قدوات يبقيهم في عيني في منزلة عالية .. القُرب أحيانا يُضعف من بهجة الود ، ويريك منهم ما يكدّر تلك المشاعر ..
في ترجمته الباذخة لكتاب " العلم الجديد - في الطبيعة المشتركة لكل الأمم" يقول المترجم أحمد الصمعي عن فيكو مؤلف الكتاب : (كان فيكو يقرأ دائما ثلاث مرات كلّ كتاب: المرّة الأولى لفهم وحدته، والمرّة الثانية لاكتشاف السلسلة التي تربط بين مختلف موضوعاته، والمرّة الثالثة للتمعن في أشكال لغته وفي جمال أفكاره الخصوصية) ..
رفع الحافظ الدَّقَّاقُ (ت ٥١٦) قلمَه عن رسالته في وصف حاله وأمر شيوخه وأهل عصره بقوله: "وليس عندي شيءٌ أرجى من: كثرةِ ما كتبتُ من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ وفوق الرضا.
وقد سمعتُ أبا الفتح المظفّر بن حمزة رحمه الله قال: سمعت عبد الواحد بن محمد المُنِيري يقول: رأيت أحمد بن أبي عمران رحمه الله بنيسابور في المنام؛ فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غَفَر لي بكثرة صلواتي على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا؛ كَتْبًا، وقولًا".
صديقي المؤلف .. مادام نفس التأليف لديك حاضرا، وتحملُ صبرا وجلدا.. فاكتب في شيء جديد، أو تناول موضوعا معروفا من زاوية أخرى وبمعالجة أكثر جدّة.. تكرار الموضوعات والحديث عنها وتسويد الصفحات بالأفكار المتخمة بحثا وكتابة ليس مما ينتظره القراء منك .. ساهم في إنعاش الوسط الثقافي، وتجنب تكريس الرتابة والخمول.
المسائل إذا قرأتها أو سمعتها وظننت أنها واضحة، وهذا يحدث معك في كل مرة .. فهذا مؤشر على أحد أمرين: ١- أنت لا تقرأ إلا الخفيف من العلم ، وهذا لا ينقلك إلى مرحلة أعلى ويرتقي بفهمك إلى العمق ، وربما بقيت على هذه الحالة زمنا طويلا ، تظن أنك تتقدم وأنت تراوح مكانك . ٢- أنت تقرأ في مختلف درجات قوة المعارف ومتانتها، ولكنك تفهم فهما ظاهريا "سطحيا" فتكسب القشرة، وتخسر اللب !
وعليه فالقارئ المنتفع حقا، هو من تعسر عليه بعض المسائل، ويعاني من استيعاب بعض القضايا.. فتدفعه تلك الآلام والمعاناة لمزيد بحثٍ وقراءة وتساؤلات.. وهذه الحالة هي علامة ترقٍ وسير صحيح في مدارج الكمالات .
لن يتمرن الذهن عندك ويعي الأفكار ويفهم تقاطعاتها وما ينفع منها وما يضر ، وتترقى لديك ملكة النقد واكتشاف الثغرات .. وتكتسب التوازن والمرونة وتبتعد عن التحيز الممجوج .. كل ذلك لن يحدث إلا بالقراءة لمن تختلف معهم .. ولست بحاجة إلى التذكير بأن هذا خاص بمن تأسس جيدا.. لكني بحاجة إلى التذكير أن فئاما كثيرين ممن تأسس جيدا ، قد توقفت عندهم كثير من الملكات لأنهم انكفأوا فقط على من يوافقهم.