رفع الحافظ الدَّقَّاقُ (ت ٥١٦) قلمَه عن رسالته في وصف حاله وأمر شيوخه وأهل عصره بقوله: "وليس عندي شيءٌ أرجى من: كثرةِ ما كتبتُ من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ وفوق الرضا.
وقد سمعتُ أبا الفتح المظفّر بن حمزة رحمه الله قال: سمعت عبد الواحد بن محمد المُنِيري يقول: رأيت أحمد بن أبي عمران رحمه الله بنيسابور في المنام؛ فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غَفَر لي بكثرة صلواتي على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا؛ كَتْبًا، وقولًا".
صديقي المؤلف .. مادام نفس التأليف لديك حاضرا، وتحملُ صبرا وجلدا.. فاكتب في شيء جديد، أو تناول موضوعا معروفا من زاوية أخرى وبمعالجة أكثر جدّة.. تكرار الموضوعات والحديث عنها وتسويد الصفحات بالأفكار المتخمة بحثا وكتابة ليس مما ينتظره القراء منك .. ساهم في إنعاش الوسط الثقافي، وتجنب تكريس الرتابة والخمول.
المسائل إذا قرأتها أو سمعتها وظننت أنها واضحة، وهذا يحدث معك في كل مرة .. فهذا مؤشر على أحد أمرين: ١- أنت لا تقرأ إلا الخفيف من العلم ، وهذا لا ينقلك إلى مرحلة أعلى ويرتقي بفهمك إلى العمق ، وربما بقيت على هذه الحالة زمنا طويلا ، تظن أنك تتقدم وأنت تراوح مكانك . ٢- أنت تقرأ في مختلف درجات قوة المعارف ومتانتها، ولكنك تفهم فهما ظاهريا "سطحيا" فتكسب القشرة، وتخسر اللب !
وعليه فالقارئ المنتفع حقا، هو من تعسر عليه بعض المسائل، ويعاني من استيعاب بعض القضايا.. فتدفعه تلك الآلام والمعاناة لمزيد بحثٍ وقراءة وتساؤلات.. وهذه الحالة هي علامة ترقٍ وسير صحيح في مدارج الكمالات .
لن يتمرن الذهن عندك ويعي الأفكار ويفهم تقاطعاتها وما ينفع منها وما يضر ، وتترقى لديك ملكة النقد واكتشاف الثغرات .. وتكتسب التوازن والمرونة وتبتعد عن التحيز الممجوج .. كل ذلك لن يحدث إلا بالقراءة لمن تختلف معهم .. ولست بحاجة إلى التذكير بأن هذا خاص بمن تأسس جيدا.. لكني بحاجة إلى التذكير أن فئاما كثيرين ممن تأسس جيدا ، قد توقفت عندهم كثير من الملكات لأنهم انكفأوا فقط على من يوافقهم.
لذة العلم .. روحه، وبهجته، وأنسه .. فردوس المعرفة..إمتاع الفكر، انتشاء النفس بفتح المغاليق .. لا يؤتى كل ذلك، إلا منصرف للعلم مشغول به.. متجنب للمخاصمة ،، حفيّ بالرفاق .. يتعوذ بالله كل يوم من قطاع الطريق، من جعلوا من العلم سبيلا للوقيعة وطريقا للتفرق . تشغله المعاني الكبرى، والقيم السامية، ولو لم يبق على هذه الوجهة سواه.
أيّا كان تخصصك الشرعي، فلن يكون لكتابتك أثر، وكلمتك قبول، وأبحاثك انتفاع، ومؤلفاتك بقاء ورسوخ .. إلا إذا جمعت مع تخصصك قراءات معمقة في تاريخ الأفكار والمذاهب، وتأمل جيد في السياقات التي نشأت فيها تلك الأفكار .. من شأن ما سبق بناء الملكة الفاعلة في التحليل والنقد، وفهم تلك الروابط بين الأفكار المتنوعة ودوافعها ومآلاتها، والظفر بميزة التخلص من التحيز المعرفي المبالغ فيه. خلاصة .. بناء العقل العلمي المتمكن لن يكون إلا بهذا النحو ، سواء كنت فقيها أو مفسرا أو محدثا أو غير ذلك .
قفزوا إلى الكتابة قبل العبّ من القراءة ،، فأخرجوا لنا هذا الهزال من الكتابات، والضعيف من القصص والروايات .. وتوسلوا إلى عقولنا بجميل الأغلفة وبديع العناوين !
العلم عزيز .. لا يسلس لك إلا إذا كان شغلك الشاغل وهمّك ورغبتك .. وهو الذي لأجله يتأخر نومك، ويبكر استيقاظك .. العلم ليس رشفات تؤخذ مع شرب الشاي ومنادمة الأصدقاء.. هو انفراد نفسٍ بمسائله، واستجماع ذهنٍ لإدراك معانيه .. ومراجعة بين فترة وأخرى مع الرفاق .. أعطه كلك.. وعساك بعد ذاك تحصل جزءا منه!
العلم والتعلم ليس ميدانا للتنافس بغية الوصول إلى المراتب أو تحطيم أرقام قياسية .. هذه ميادين للغبطة والبهجة والفرح بفضل الله ، تصيب منها شيئا ويفوتك أشياء. .. فأبعد عن بالك الرهق والتحفز في غير طائل.