تابعتُ ليلة البارحة أول مَقطع مِن (خواطر الخلوة) لشيخنا الحبيب، بعد أن كنت أرقبُها بشدة، لِحساسيّة الظرف الذي جاءت فيه، فسمعتُ فيها كلاما ليس ككل كلام، ورأيتُ فيها شيخا ليس ذاك الذي أعرفُه؛ رأيتُه متأثرا كأنه يخفي دموعَه.. والله لستُ أبالغ، هكذا كان شعوري..
أريد أن أحدّثَكم بأمر أرجو أن تعقلوه يا أحباب، قبل أن تعيشوه فتعلموا صدقَه:
والله لا شيء آلَمُ للرجل الصادق مِن أن يُطعن في صدقه الذي هو أعزّ شيء عليه، ولا شيء أجرحُ ولا أوغلُ في الإذاية للدَّيّن مِن أن يُطعن في دينه الذي نذر له حياتَه كلها..
وطعنةُ الرجل في صدقه ودينه كطعنة المرأة في عرضِها وعفّتِها.. تلكَ بتلك.. سَواء بسواء.. فلو أردتُم استشعار حجم ألَم النبي -ﷺ- بتكذيب قومه له، تذكّروا آلامَ مريم حين رُزقتْ بالولد فعلمتْ أن قومَها سيتعرّضوا لها بشبهة (الزنا) هل تَعلمون ما قالت: (يا ليتني مِتّ قبل هذا)!.. فأروني أفجعَ للحِسّ مِن كذا قول!!
كان الرجل في دَعة مِن أمره في بلاد الحرمين مُحاطا بما لذّ مِن مفاخر الأوساط الشرعية، بعد أن تجرّع مرارة السجن الظالم لما يزيد عن الخمس سنين، صبر فيها على لأواء المَرض والفقد.. ثم سرعان ما خرج لتَتلقّفه أقدارُ الغربة بِهجرةٍ إلى أرض بعيدة لا يعرفها ولا تعرفه، ترك أهله ودياره وراء ظهره، لله وفي سبيل الله -أو هكذا نحسبه-، لا يريد بذلك إلا إعلاء كلمة الله بمشاريع طالما حدثته به نفسُه!.. يغلّب بها الكفة، ويداوي بها الجرح، وينثُر بها شيئا مِن الأمل!
أتعلمون بعد كل هذه الجهود.. تُستنفر له حسابات المجرمين من مَداخلة الداخل والخارج تُحرّض عليه وعلى طلبته وبرامجه أنظمةَ الفساد والإجرام، ثم يتابعهم على ذلك السذّج والصبية والذباب.. فينالون منه نَيلا لا يفكّه عنه أحدٌ؟
أتعلمون حجم شعور الرجل بهذا؟
لا يأتي إنسان ويقول لنا: الشيخ أرفعُ عن متابعة هؤلاء، فهو ماضٍ في سبيله لا يكترث لهم..
يا حبيب! كلامي ليس عن مسألة استمراره أم لا؛ بل عزمُه على إمضاء مشاريعه مفروغٌ منه لا يناقش بإذن الله، وإنما حديثي عن تلك المشاعر الإنسانية التي لا يكاد يعلم حجم إذايتها إلا مَن تعرّضتْ له في حياتِه، بل لم يسلم منها الأنبياء أنفسُهم؛ فهذا رسولنا باخِعٌ نفسَه على آثارهم، تارة يمسح عن وجهه الدمع، وتارةً يمسح عن وجهه الدم.. وذاك يبكي على فراق يوسف أربعين سنة!!
يعلم الله أني ما كنتُ أود أن أجعلَ هذا القلم ينبري لتَلميع أحد في حياته حِفظا لطبائع النفوس المتقلبة، وخروجا مِن التزكية لمَن هم أرفعُ في مِثْل الشيخ مِن مِثلي بالمدح والإطراء؛ ولكن حين رأيتُ أن المشهد إنساني، والوَقعَ فيه غائر، والفكرةَ التي جُعلت مدارَ سهام السفهاء لا يملكُها رجلٌ أو رجلان، وإنما هي للأمة كلها -كان واجبا علي أن أكتبَ هذا غيرةً على الفكرة، وردّا للجَميل، وشُكرا على الفَضل، ثم قبل ذلك وبعده: لعِلمي بأن الطعنة في الصدق مؤلمة!!
أما الناصر للإسلام، ومُعلّم الخيرَ للناس؛ فلا أكثرَ مِن مُخالفتِه -إن خالفتَه- بأدب، أما سوى ذلك فحرامٌ لا يرضاه الله ورسوله، ونبرأ إلى مَولانا مِن سوء ما فعلوه.. ألَا في الفتنة سَقطوا!
أحبُّ هذا الرجلَ وأعلنُها لله، بل والله إني أطمع بحُبّي له أن يُحبّني ربي.
فاللهم ثَبّته، وارفع عنه المَلامة، وأزِل به الغَمامة، واشفه وعافِه، واهدِه واغفر له.
آمين.
#أمتي