الدكتور أحمد المهدي الحنبلي

Channel
Logo of the Telegram channel الدكتور أحمد المهدي الحنبلي
@drelmahdiPromote
724
subscribers
7
photos
1
video
رسالةُ إصلاح؛ لإنقاذ الأمَّة.
✿ قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: «مَن تعلَّم الشِّعرَ؛ رقَّ طَبْعُه».
• خاطرة في النُّصح [للمُصَلِّي] (٣).

وبعضُ النَّاس إذا أدرك الإمامَ ساجدًا؛ فإنَّه لا يسجدُ مع الجماعة، بل ينتظرُ -واقفًا- حتَّى يقومَ الإمامُ إلى الرَّكعة الأخرى، فحينئذٍ يدخلُ معه في الصَّلاة.

ولا شكَّ أنَّ المَسبوقَ إذا فرَّط في السُّجود مع إمامِـه؛ فهو محروم، وذلك لقول النَّبيِّ ﷺ لأبي أمامةَ رضي الله عنه: «اعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً؛ إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ لَكَ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً».

فينبغي على المرء أنْ يُتابعَ إمامَـه في الـرُّكن الذي هو فيه، وبخاصَّـةٍ في السُّجود، فيُكَبِّـرُ تكبيـرةَ الإحرام قائمًا، ثمَّ يهـوي لله ﷻ ساجـدًا في خضوعٍ وخشوع.
★ إعادة نشر ★
يمكنك الضَّغط على رابط الخاطرة للوصول إليها في موضعِها، وتصفُّحِ ما قبلها وما بعدها من الخواطر. 👇🏻
• خاطرة في تصحيح المفاهيم (١٠).

اعْلَمْ -أيُّها المؤمنُ العاقل- أنَّنا نفرح بقصف «الحِزب» لمُغْتَصَبَاتِ [مُسْتَوْطَناتِ] الكيان المُحْتَـل، لا مِن بـابِ الفرح بجهاد أهلِ الإيمان، ولكنْ مِن باب الفرحِ بنزول الضُّرِ بأهل الكفر.

وذلك لأنَّنا لا نرى مَنْ طعن في عِرْضِ عائشةَ رضي الله عنها، ولعـن أبا بكـر وعمـرَ، وكفَّـرَ أصحابَ محمَّدٍ ﷺ؛ لا نراه مؤمنًا، بـل هو مُكذِّبٌ بصريح القـرآن، عـدوٌّ مِن أعداء رسول الله ﷺ، وإنْ ادَّعى محبَّتَه، والسَّيرَ تحت رايتِه، وليس ينفعُـهُ أنْ يحاربَ بني صهيـون، وليست حربُـه لهم إلا مِن بـاب قول النَّبيِّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ».

فمتى مات الفاجر فقد «استراح منه العبادُ والبلاد»؛ كما أخبر النَّبيُّ ﷺ، وإذن لا يحزنُ عليه أهلُ الإيمان.

فإنْ قيل: قد نقص بموتِه مَنْ يَغِيظُ اليهودَ والنَّصارى، قلـتُ: لعـلَّ الله أراد أنْ يُخلـيَ ساحـةَ الجهـاد لأهـل الإيمـان وَحْدَهـم، فـلا يُخالِطُهم مَنْ في قلبه مـرض، فيكون الحـقُّ بذلك خالصًا لا دَخَنَ فيه.

واذْكُرْ -أيُّها العاقل- أنَّ الله تعالى قد قال في شأن أهلِ النِّفاق: «وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» [الأحزاب: ٢٠]، وهذه تَرْسانَةُ الحزبِ العسكرية، ما قاتلوا بجميعِها، ولا يُقاتلون، إنَّما هم يُناوِشون؛ ذرًّا للرَّماد في العيون.

وما أفْجَـعَ أنْ تعلمَ أنَّ «الحِزبَ» قد وجَّـه سلاحَه إلى أهل السُّنَّة في سوريا، فقتل منهم أعظـمَ مِمَّا قتل مِن اليهـودِ في تاريخـه كلِّـه، فلا تَكُـنْ مُغَفَّـلًا، فإنَّ الغفلـةَ تؤخِّرُ النَّصر، وإنَّ الوعيَ يَسْتَجلِبُ الرَّحمةَ والفتح.

وراجِـعْ: خاطرة في الـرَّدِّ على مُخالفي السُّنَّة (٣)، فإنَّ فيها مزيدَ بيان.
• تدبُّر القرآن (١٦).

قال الله ﷻ: «ٱلَّذِی یَرَىٰكَ حِینَ تَقُومُ ۝٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِی ٱلسَّـٰجِدِینَ ۝٢١٩» [الشُّعراء].

قال أهلُ التَّفسير: يراك حين تقومُ إلى الصَّلاة، ويـرى تقلُّبَـكَ في الرُّكوع والسُّجـودِ والقيامِ مع المُصَلِّيـن في جماعة، والمعنى: يراكَ وحْدَكَ ويراكَ في الجماعة.

قلـتُ: العاقـلُ إذا نظر إلى صلاتِـه حـالَ كَوْنِهِ إمامًا، ثمَّ نظر إليها وهو مُنْفَرِدٌ، فوجد بين الصَّلاتين فارِقًا= اتَّهم نفسَه بالنِّفـاق، إذ جعل نَظَـرَ النَّاس إليه أعظمَ مِن نظـرِ ربِّــه ﷻ.

ومَن تخوَّف مِن هذا المعنى؛ سعى في إصلاح صلاتِه، فطَـرَح العَجَلَةَ منها، وزيَّن قيامَها وركوعَها وسجودَها، وهو يستحضرُ مراقبةَ المَلِكِ العظيم له.

ورحم الله ابنَ القيِّـم حيث قـال: إمَّا أنْ تصلِّيَ صـلاةً تليقُ بمعبودِك، وإمَّا أنْ تَتَّخِذَ معبودًا يليقُ بصلاتِك!
• خاطرة في الغُرْبَة (٩).

قد عَلِمنا أنَّ الدُّنيا سجنُ المؤمن، وبعضُ منازلِ السِّجن أحلكُ ظُلْمةً مِن بعض.

فمِن النَّاس مَنْ هو محبـوسٌ في سجن غربتِـهِ وسجنِ ضَعْفِهِ، قد أُقْعِدَ لا يدري ما يفعل، فكأنَّه نظر إلى القَيْد في رِجْلِـهِ؛ فثَقُـلَ عليه أنْ يمشيَ به، فخارت عزيمتُـه، ورضي بعُزْلتِـه، وجلس ينتظر مَنِيَّـتَه.

ولـو أنَّـه ذَكَـرَ قـولَ النَّبـيِّ ﷺ: «الْمُؤْمِـنُ الْقَـوِيُّ خَيْـرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ.. وَاسْتَعِـنْ بِاللَّـهِ، وَلَا تَعْجِزْ»؛ لقامَ فطافَ في سجن غربتِهِ، وتناسى القَيْدَ في رِجْلِـهِ، وأغاظ بإرادتِـهِ مُبغضيه.

فهـو في حبْسِـهِ عـزيـزٌ لا يـرضى بالوَهَـنِ والخضـوع، يباشرُ شؤونَـه على رغم أنف ساجنيـه، ولا يُفـرِّطُ في مُتاحٍ مُباحٍ إلا واختلس نصيبَه منه، فهو يأكل ويصوم، ويقعد ويقوم، وينظر مِن نافذته إلى الشَّمس والنُّجوم، ويُكلِّم مَـنْ يشـاء فيمـا شـاء، ويصطفى لنفسِـهِ خليـلًا يأنـس به ويرتضيه، ومتى مُنِعَ مِن شيءٍ مِن حقوقِـه؛ تحيَّن الوقتَ ليظفـرَ به دون خوفٍ أو تَـرَدُّد.

فمَن تأمَّل هذه الصُّورة؛ عَلِمَ أنَّ سجنَ الضَّعْـفِ أعظمُ مِن سجن الغُربـة، وأنَّ الغربةَ لا أثـرَ لها مع علوِّ الهمَّـةِ في طلب ما أحلَّه الله، والإصرارِ على تحصيل المباح الذي تميل له النَّفس.
• خاطرة في النُّصح [لمَنْ لا يقبل النُّصح] (٨).

وبعضُ النَّاس يرى النَّصيحةَ كأنَّها جبلٌ يُوشِكُ أنْ يقعَ عليه، فيضيقُ صـدرُه بها جدًّا، ويلجأُ إلى إنكـار أصـلِ المشكلةِ التي هي موضوع النَّصيحة.

فإنْ قلـتَ له مثـلًا: «اخفِضْ صوتَك»، قـال: «لم يرتفعْ صوتي كي أخفضَه»، وإنْ قلتَ له: «اغسِلْ يدَك»، قال: «لم تتَّسخ يدي حتَّى أغسلَها».

فإنْ بصَّرتَـه بما فاتَـه؛ فقلتَ له: «قد ارتفـع صوتُك مع انفعالِك ولم تنـتبه»، و«قـد أمسكتَ شيئًا غيـرَ نظيفٍ، ولم يظهرْ أثـرُه في يدك»، قال لك: «لا، بـل الأمرُ على كذا وكذا وكذا وكذا»، فيسوقُ ويحشدُ لك كثيـرًا من الحجج الباطلـة التي تُسَـوِّغ تَـرْكَـه للنَّصيحة، وتُظْهِرُه في صورة المُصيب الذي جانبَ الخطأ.

وسبب ذلك أنَّ شيئًا في نفس هؤلاء يأبى أنْ يُوصفَ بالخطأ، وما ذاك الشيءُ إلا الكِبر، ومِصداقُ ذلك قولُه ﷻ: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ» [غافر: ٥٦].
• قال الفخر الـرَّازي: نبَّـه تعالى على أنَّ الذي يحملُهم على هذا الجدال الباطل كبرٌ في صدرِهم.

والمُتَكَـبِّـرُ إنسانٌ مغـرور مُعْجَـبٌ بنفسِـه، مُسْتَحْسِنٌ لأعمالِـه وأحوالِـه وسائـرِ مـا يتوهَّـمُ أنَّـه مِن صفـات كمالِه، ومِثْلُ هذا المرء يظنُّ أنَّه لا يحتاجُ إلى النُّصح والإرشاد مِن أحد، بـل يرى رأيَـه فوق الآراء، وعَمَلَـه فوق الأعمال.

ومِن صور الجدال الصَّادر عن الكِبْر ما رواه النَّسائيُّ في «الكبـرى» عن أبي موسى رضي الله عنه، قـال: بينما رسول الله ﷺ يمشي وامرأةٌ بين يديه، فقلت: الطَّريقُ للنَّبيِّ ﷺ، فقالت: الطَّريقُ مُعْترِض، إن شاء يمينًا، وإن شاء أخذ شمالًا، فقال النَّبيُّ ﷺ: «دعوها، فإنَّها جبَّارة» قلت: إنَّها، قال: «إنَّ ذلك في القلب».

• قال ابن رجب رحمه الله: «إنَّها» يعني: مسكينـة، وقـولُه ﷺ: «إنَّ ذاك في قلبها» يعني أنَّ الكبر في قلبها، وإنْ كان لباسُها لباسَ المساكين.

• قلتُ: الأصـلُ أنْ تمشيَ المـرأةُ على حافَّـة الطَّريـق، لا في وَسَطِـه؛ كما أمَرَها النَّبيُّ ﷺ بذلك؛ لأنَّـه أحفظُ لهـا مِـن الاختـلاط بالرِّجـال، وأستـرُ لهـا عن الأنظـار، ولذلك دعى أبو موسى -رضي الله عنه- المرأةَ لتُفْسِحَ الطَّريقَ للنَّبيِّ ﷺ ومَـنْ معـه، لكنَّهـا أبَتْ أنْ تفعـلَ مـا يُمليه الحياءُ على النِّساء، وجادلت وادَّعت أنَّ الطَّريقَ واسعٌ، فأمر النَّبيُّ ﷺ أصحابَه ألا يخوضوا معها بقولِه: «دعوها»، وأخبر أنَّ الكِبْرَ الذي تمكَّن مِن قلبها؛ هو ما حَمَلَها على الجدال بما لا يصلح أنْ يكونَ حُجَّةً.

وهكذا تجـدُ دائمًا كـلَّ مُتَكَبِّـرٍ مجادلًا، يريـد أنْ يدفعَ الحـقَّ بأعذارٍ مكذوبة تارة، أو في غاية الضَّعف تارةً أخـرى، لا يقبلُهـا العقـلُ السَّليم، وهذا كلُّـهُ مِن عَـمَـلِ الشَّيطـان، كما قال اللهُ تبارك وتعالى: «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ» [الأعراف: ١٢١].

فمَنْ أراد صلاحَ أحوالِه مع النَّاس، فعليه بترك الجدال حين خطئِـه، فإنَّ الهدى في الإنصاف والاعتراف، وإنَّ الضَّلال في الجِدال، كما في حديث أبي أمامـةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما ضلَّ قومٌ بَعْـدَ هدًى كانوا عليه إلا أُوتوا الجَدَل».

أعاذنا اللهُ وإيَّاكم مِن الكِبْـر والجِـدال والضَّـلال.
• تدبُّر القرآن (١٥).

قـال الله ﷻ: «فَمَـنْ أُوتِيَ كِتَابَـهُ بِيَمِينِـهِ فَأُولَئِــكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» [الإسراء: ٧١].

الفَتِيلُ: هو القِشْرُ الَّذِي في شَقِّ النَّواة، ويُضْرَبُ مَثَلًا للشَّيءِ الحَقِير.

قال العلَّامة الشَّيخُ مَـرْعِـيّ رحمه الله:
وإنَّما خَصَّ القِـرَاءَةَ بمَنْ أُوتِيَ كِتَابَـهُ بِيَمِينِـهِ، دُونَ مَنْ أُوتِيَـهُ بِشِمَـالِـهِ؛ لِأَنَّ أَهْـلَ الشِّمَـالِ إِذَا طَالَعُـوا كِتَابَـهُم وَجَـدُوهُ مُشْتَمِـلًا عَلَى المُهْلِكَـاتِ العَظِيمَـةِ، وَالْقَبَـائِـحِ الذَّميمـة، فَيَـتَـوَلَّى الخَــوْفُ وَالـدَّهَــشُ على قُلُوبِـهِم، وَيَثْـقُـلُ لِسَانُـهُـم، وَيَعْـجِـزُونَ عَـنِ الـقِـرَاءَةِ، بِـخِــلَافِ أَصْحَـابِ اليَمِيـنِ فَإِنَّهُمْ إِذَا طَالَعُـوا صُحُـفَ حَسَنَاتِهِم؛ وَجَـدُوهَا على الكَمَـالِ، فَيَقْرَءُونَ كِتَابَهُم على أَحْسَـنِ الأَحْـوَالِ وَأَتَمِّهـا. اهـ.
• خاطرة في الإيمان (٧).

روى الإمام أحمد في «مُسْنَدِه» عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ﷺ قال: «إذا كان ثلثُ اللَّيل الباقي، يهبـط الله عَزَّ وَجَلَّ إلى السَّمـاء الدُّنيـا، ثـمَّ تُفْتَح أبـواب السَّماء، ثمَّ يبسـط يـدَه، فيقـول: هـل مِن سائلٍ يُعطى سُؤلَه؟ فلا يزالُ كذلك، حتَّى يطلعَ الفجر».

قلتُ: أحاديث النُّـزول من جُمْلَـة أحاديث الصِّفـات التي أخبر بها رسولُ الله ﷺ عن ربِّه تبارك وتعالى، ولم يُبيِّنْ لنا ﷺ كيفيَّةَ نـزولِـه جلَّ وعلا، ولا سَأَلَـهُ أحـدٌ من الصَّحابة عن وَصْـفِ ذلك، ولا تكلَّمـوا فيه -بعـدَه- بآرائهـم، فإنَّه سبحانـه أعظـمُ مِن أنْ يبلغَـه وَصْـفُ الواصفيـن.

وكان الصَّحابة رضي الله عنهم ينظرون فيما يترتبُ على حديـث النَّبيِّ ﷺ مِن عمـلٍ وزيادةٍ في الإيمان، فينشغلون بذلك، ويسكتون عمَّا سـواه مِمَّا لا يُـدْرَك، ولذا قال ابنُ شهابٍ الـزُّهريُّ رحمه الله -بعدما روى حديثَ النُّزول-: «فلذلك كانوا يستحبون آخرَ الليل على أوَّلِــه».

يعني بـذلك: أنَّ أكثـرَ اجتهـاد الصَّحابـةِ في الصَّـلاة والدُّعاء كان في ثُلُثِ اللَّيل الآخِر؛ لاعتقادهم أنَّ الله ﷻ ينزل إلى سماء الدُّنيا في ذلك الوقت بلا كيفٍ، فيقضي حوائجَ عبادِه، كما أخبرهم النَّبيُّ ﷺ بذلك.

وهذه الطَّريقة؛ أعني: إثباتَ الصِّفةِ وتفويضَ الكَيْف، هي طريقةُ كبار أئمَّةِ السَّلف، فقد روى ابنُ أبي زَمِنين رحمه الله في «أصـول السُّنَّـة» عن زُهَيـر بن عبـادة قال: «كلُّ مَنْ أدركت من المشايخ: مالكٍ، وسفيانَ، وفضيلِ بن عياض، وعيسى، وابنِ المبارك، ووكيعٍ؛ كانوا يقولون: النُّــزول حــقّ».

يعني: يُقِرُّون به، ولا يتكلمون فيه، كما قال ابنُ مَعِين رحمه الله: «كلُّ مَنْ لقيـتُ مِن أهـلِّ السُّـنَّـة يُصَـدِّق بحديث التَّنـزُّل»، وقال: «صَـدِّق به، ولا تَصِفْـه».

ومَنْ التزم هـذه القاعدة، فأجـراها على صفـة النُّزول، ثمَّ تفكَّر في الآثار التي تترتبُ على نزول الرَّبِّ ﷻ إلى سماء الدُّنيا كما يليـقُ به؛ وَجَدَ حـلاوةَ الإيمانِ بصفـات الله في قلبـه، فإذا به يُجافي جنبُه مضجَعَـه، ويمسـح النَّوم عن عينـه بيده، وينهض مشتـاقًا، فيتطهَّر أحسـنَ الطّهور، قبل الوقوف خاشعًا بين يدي الله الغفور.
خاطرة في العبادة (١٧).
[صلاة الجماعة].

روى الإمام أحمد في «مُسْنَدِه» عن عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادِ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُـولَ اللهِ ﷺ أَتَى الْمَسْجِـدَ فَرَأَى فِي الْقَوْمِ رِقَّـةً، فَقَـالَ: «إِنِّي لَأَهُـمُّ أَنْ أَجْعَلَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، ثُمَّ أَخْرُجُ فَلَا أَقْدِرُ عَلَى إِنْسَانٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِـهِ؛ إِلَّا أَحْرَقْتُهُ عَلَيْهِ».

فَقَـالَ ابـنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: يَا رَسُـولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْـنَ الْمَسْجِدِ نَخْلًا وَشَجَرًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ، أَيَسَعُنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي قَالَ: «أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأْتِهَا».

فأيُّ وجوبٍ أعظمُ مِن هذا؟ النَّبيُّ ﷺ يُهدِّدُ فريقًا مِن المؤمنيـن، تخـلَّفوا عن الجماعـة، وصلَّـوا في بيوتهم؛ لتأويلٍ تأوَّلوه، ولا يُقال: إنَّه ﷺ قصد المنافقين بذلك؛ لأنَّ المنافقيـن لا يصلُّـون في بيوتهم؛ إنما يصلُّـون في الجماعة رياءً وسُمْعَة، وأمَّا إذا خَلَوا؛ فكما وصفَهم الله ﷻ مِن الكفر والاستهزاء.

ويأتي ابنُ أمِّ مكتومٍ يطلبُ الرُّخصـة، لكونِـه أعمى، مـا له مَنْ يُمْسِكُ يدَه، ويقودُه إلى المسجد، ومع حالِه هذا؛ لم يُرخَّص له أنْ يُصلِّيَ في بيته، فكيف يُرخَّصُ لغيـرِه مِمَّن هو في عافيـةٍ وصحَّـةِ بصـر؟
• خاطرة في القرآن (٤).

كثيرٌ مِن النَّـاس غافلـون، يسمعون القـرآنَ يُتلى عليهم، ولا يتدبَّرونَه، ولا يتفكَّرون في وعدِه ووعيدِه، وقد ذمَّ الله مَن لم يتدبَّـر القـرآنَ بقولِـهِ تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» [محمد: ٢٤].

فالغفلةُ إذا غَلَبَت على ابنِ آدمَ؛ أغْلَقَتْ عليه بابَ الفَهْم، ومَنَعَتْهُ مِن كلِّ خير، وساقته إلى كلِّ شرٍّ، وثَقُلَتْ عليه طاعةُ الله عزَّ وجلّ.

وسببُ الغفـلة أنْ يستحـوذَ الشَّيطـانُ على الإنسـان، ويُزيِّـنَ له حبَّ الـدُّنيا وإيثـارَها، والسَّعيَ في طلبِـها، والاشتغـالَ بتحصيلِـها، حتَّى يكـونَ ذلـك كـلَّ همِّـهِ، ومنتهى أملِـهِ، ومَبْلَغَ عِلْمِـه، وينسى ذِكْـرَ ربِّـه تعالى وتقدَّس، فيكـون مِمَّـن قـال الله ﷻ فيهم: «يَعْلَمُونَ ظَاهِـرًا مِنَ الْحَيَـاةِ الـدُّنْيَا وَهُـمْ عَـنِ الْآخِـرَةِ هُـمْ غَافِلُـونَ» [الرُّوم: ٧].

فمَنْ أراد أنْ يتحرَّكَ قلبُه، وتدمعَ عينُه عند سماع آياتِ الله؛ فلْيُكْثِرْ مِن ذِكْرِ الآخرة، والتَّطَلُّعِ إلى الجنَّـة؛ حتَّى يُزاحمَ حبُّها حبَّ الدُّنيا في قلبِه، فيستفيقُ مِن غفلتِه، ويعملُ القرآنُ فيه عَمَلَه.

قال الحكيمُ التِّرمذيُّ في «نوادر الأصول»:
مِن النَّاس مَنْ هُوَ ميِّتٌ على الدُّنيا مِن حبِّها، ويُعَظِّمُها تَعْـظِيـمًا، لا يـنـامُ حِـرصًا وشَـرَهًا، حَتَّى يأخُـذَهـا مِـن الشُّبُهـات؛ بتضييع الأمانـات، والتَّفريطِ في الفرائـض، ومَنْـعِ الحـقـوق، ونسيـانِ الـمـوتِ والقـبـر والقـيامـةِ والحسـابِ بين يـدي الله ﷻ.

وإِذا تَـلا القـرآن فكأنَّما يُنْشِـدُ شِعْـرًا، أو يحكي كـلامَ النَّاس، لا يتحرَّكُ قلبُه لوعـدٍ ولا لنبـأٍ مِن أنباء القـرآن، ولا تَدْمَعُ عينُه، ولا يدري ما تَـلا، إِنَّما همُّـهُ أَنْ يُطَيِّبَ نفسَه بِأنِّي قد قرأتُ وتلوت، فهو صاحبُ قلبٍ خَرِب، زَبونٌ مِن زَبون الشَّيطان، أَحمقُ مِن حمقى أهلِ الغيِّ.

والغافـلُ إِذا انتبه مِن غفلتِه؛ استحيا مِن نفسِـه بما لعب به شيطانُه، وإذا صار في قلبه حياةٌ فسَمِعَ بِذكْرِ الجنَّة؛ قال: الجنَّةُ دارُ الله، فغمَّض عَيْنَيْهِ حياءً مِن الله تعالى، وقال: مِثْلي يصلحُ لدار الله؟ ثمَّ دَمَعَتْ عَينـاهُ، واحْتَرَقَ جَوْفُه؛ مخافةَ الفَـوْتِ والبُعْـدِ من الله تعالى، وأخذَتْهُ الحسرةُ والنَّدامةُ حتَّى أدَّاهُ ذلك إلى التَّضرُّعِ والتَّورُّعِ عن حبِّ الدُّنيا. [اهـ. مُختَصَرًا].
• خاطرة في الغُربَة (٨).
[١٤٩ عامًا على إلغاء التقويم الهجري في مصر].

قال شيخُ الجامعِ الأزهر
محمَّد الخضر حسين رحمه الله:
كتب أبو موسى الأشعري إلى عمرَ بنِ الخطَّاب كتابًا، يقـول فيه:«إنَّه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ».
فجمـع عمـرُ النَّـاسَ، يستطلـعُ رأيَهـم فيمـا يكـون بـه التَّأريخ، فقال بعضُهم: «أَرِّخ بالمبعث»، وقال بعضُهم: «أرِّخْ بالهجرة»، فقال عمر: «الهجرةُ فرَّقت بين الحقِّ والباطل، فأرِّخوا بها».

يقول عمـرُ: «الهجرةُ فرَّقت بين الحقِّ والباطل»، وهذا إشـارةٌ منه إلى المَزِيَّـة التي استحقَّـت بها الهجـرةُ أنْ تكونَ مبدأَ التَّأريخِ العامِّ في الإسلام، فإنَّ الدَّعـوة إلى الإسلام كانت تُلاقي في مكَّةَ معارضةً، وعقباتٍ تُوضع في سبيلها، وأخذت بعـد الهجـرةِ حرِّيَّتَها كاملـةً، ولـم يستطِعْ أحدٌ أو جماعةٌ الوقوفَ في طريقها.. فلم يمضِ عليها عَشْـرُ سنيـن حتَّى عمَّت الجزيـرة، وانضـوى إلى الإسلام ملوكُها ورؤساؤها. اهـ.

قلتُ: فالعجبُ مِن أمَّةٍ قد حرَّرها الله ﷻ، وجعل لها هويَّـةً خاصَّةً، ثمَّ هي تُفرِّط في حرِّيَّتِها، وتنسلخُ من هويَّـتِها، لتكونَ تابعـةً لأراذل الخَلْـقِ، مُقَلِّـدَةً لهـم في الأفـراحِ والاحتفـالات، وفي الـزِّيِّ واللِّبـاسِ، والمآكـلِ والمشـارب، والمَسَاكِـنِ والفُـرُش، والبيـوع والشِّـراء، حتَّى صار ذلك كلُّـهُ يجري خِـلافَ الكِتَابِ وَالسُّنَّـةِ؛ بِالضِّـدِّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ المُسْلِمُون، ونُدِبَ إِليهِ المُؤْمِنُون.

ولقد عـاش المسلمـون قرونًا لا يؤرِّخـون إلا بتقويمِ الإسـلام، فيُعينُهم ذلك على دوام التَّمسُّـكِ بدينِهـم، وتعظيمِ حُرُمـاتِ ربِّهـم، فإنَّ لكلِّ شهرٍ عباداتٍ ينبغي أنْ يشتغلَ بها المرء، ليزدادَ إيمانًا وقُرْبًا من الله ﷻ.

ومَن أراد أنْ يقفَ على أسرار الشُّهور العربيَّة؛ فلْيُطالِع: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لابن رجبٍ الحنبلي، رحِمَهُ اللهُ تعالى، ونفعنا بعلومِه.
• خاطرة في سعادة البيوت (٣).

روى الإمامُ أحمد في «مُسْنَده» عن جابـرٍ رضي الله عنه، قال: أتيتُ النَّبيَّ ﷺ فدَقَقْتُ البابَ، فقـال: «مَنْ هذا؟»، قلتُ: أنا، فقال: «أنا أنا!»، كأنَّه كرهها.

قال ابنُ هُبَيْرَة رحمه الله: كلمةُ أنا تتناوَلُ كلَّ طارقٍ، فلَمْ يَـرُدَّ بها على السُّـؤال، ولا يُسْتَـدَلُّ بها على الزَّائر، فلذلك كرهها رسـول الله ﷺ.
والسُّنَّةُ إذا طرق البابَ: أنْ يُتْبِعَ ذلك اسمَه؛ حتَّى في بيتِ نفسِهِ؛ ليَعْلَمَ به أهلُ دارِه، فيتأهَّبوا لدخولِه. اهـ.

وقال الحَجَّاويُّ رحمه الله: مكروهٌ دخولٌ لهاجِم، وهو الذي يدخلُ بَغْتَـةً.. ويُستحبُّ أنْ يُحـرِّكَ نَعْلَـه، ويُظْهِرَ حِسَّه في دخولِه إلى بيتِه؛ لأنَّ هذا مَظِنَّةُ الاستتارِ مِن أمرٍ يَكْرَهُ أهلُ المنزل أنْ يُرى عليهم، وربَّما يُفضي إلى الشَّحناءِ بين الأهل.

قلتُ: وقـد تقاربَ الزَّمـانُ، وتيسَّـر الاتِّصالُ، فلـو تَعَـوَّدَ الرَّجُلُ أنْ يُهاتِـفَ زوجتَـه، لِيُعْلِمَها بوقتِ وصولِه؛ لكان خيرًا لهما، فإنَّ المـرأةَ الصَّالحـة تتهيَّأُ لاستقبال زوجِها بما يسـرُّهُ مِن قولٍ وزينـة، ولا ينبغي للمرأة أنْ تتوانى عـن ذلك، فإنَّ شـوارعَ المسلـميـن قـد باتـت مَسْــرَحًا للتَّنافـس في الزِّينـة وكشف العَوْرات.
• خاطرة في تصحيح المفاهيم (٩).

ليس التَّضامنُ مع أهل غزَّةَ من باب الإنسانيَّة، وإنِّما هو مِن حقِّ المُسْلِم على المُسْلِم.

بـل أقـولُ إنَّ حقَّهم في النُّصْـرَة أعظـمُ مِن التَّضامـن، ولكـنَّ الأنظمـةَ امْتَنَعَـتْ عـن أداء الحقـوق، وحَبَسَـت الشعـوبَ -كذلـك- عن الوفـاءِ بها.

قال الله ﷻ:
«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ»
[البقرة: ١٩٠].

«وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»
[التوبة: ٣٦].

«وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ»
[الأنفال: ٧٢].

«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُـونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا»
[النساء: ٧٥].

فإنْ كان العملُ بهذه الآيات مُعَطَّلًا، وأُجْبِرَت الأمَّةُ على ذلك، فلا أقـلَّ مِن النُّصْـرَة بالكلمـات والدُّعـاء والتَّبـرُّعِ ومقاطعـة العـدوِّ، مِن بـاب أداء اليسيـر مِـن الحقـوق، وليتَنا بعد ذلك ننجـو مِن سـؤال الله ﷻ لنا عن دمـاء إخوانِنـا يـومَ القيامـة.
• خاطرة في الغُربَة (٧).

يُوشِكُ الغريبُ الذي يطلب عِلْمَ الشَّريعة، وهو يبكي إذا استَغْلَقَتْ عليه بعـضُ مسائـل الفقـه والفرائـض، يُوشِـكُ أنْ يفـرحَ ويضحك وهو يُعلِّـمُ غيـرَه العِلْـم.

روى الإمامُ أحمد في «مسنده» عن أبي رَزِينٍ -رضي الله عنـه- قـال: قال رسـول الله ﷺ: «ضَحِـكَ رَبُّنَـا مِنْ قُنُـوطِ عِبَـادِهِ، وَقُـرْبِ غِيَـرِهِ».

قـال السِّنْـديُّ رحمـه الله:
المعنى أنَّه -تعالى- يضحك مِن أنَّ العبدَ يصيرُ مأيوسًا مِن الخير بأدنى شرٍّ وَقَعَ عليه، مع قُرْبِ تغييرِهِ -تعالى- الحـالَ مِن شرٍّ إلى خيـر، ومِن مرضٍ إلى عافيـة، ومِن بـلاءٍ ومحنـة إلى سـرورٍ وفرحـة.
• خاطرةٌ في الرَّدِّ على مُخالفي السُّنَّة (٣).

وبعضُ النَّاسِ لا نصيبَ لهم مِن الشَّهادتين إلا ترديدها في الدُّنيا.

روى الإمام الآجُـرِيُّ في الشَّريعة (٨٥٨) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قـال: قـال رسـول الله ﷺ: «إِذَا قُبِـرَ أَحَدُكُمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَـانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُـولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ،.. وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَـالَ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَقُولُهُ».

فتأمَّلْ قولَه ﷺ: «فهو قائلٌ ما كان يقول»، يعني: يقولُ ما كان يعتقدُهُ في النَّبيِّ ﷺ في الدُّنيا.

فأمَّا المؤمنُ؛ فاعتقادُهُ أنَّ اللهَ ﷻ اصطفى محمَّدًا ﷺ مِن سائر خَلْقِه، وأنَّ عفافَ زوجاتِه ﷺ، وعدالةَ أصحابِه مِن تمام نبوَّتِه، فهذا أجدرُ أنُ يُوَفَّقَ للجواب في قبره.

وأمَّا المجرمُ الذي كان يؤذي رسـولَ الله ﷺ، فيُقَـدِّمُ عليه غيـرَه، ويرمي زوجـاتِه المُطَهَّـراتِ بالـزِّنا، ويلعـنُ صاحبيه، ويسبُّ بقيَّة أصحابِه، فهذا لا يمكن أنْ يُجيبَ سؤالَ المَلَكَيْن؛ لأنَّه لم يعرفِ النَّبيَّ ﷺ في حياتِه حقَّ المعرفة، بل كان في الحقيقة مُعادِيًا له.

ثُمَّ كيف بهذا الأبعـد حينما يلقى رسـولَ الله ﷺ على الحوض، وقد قال: «أَلَا وَإِنِّي فَرَطُكُمْ -يعني: مُتَقَدِّمكم- عَلَى الْحَـوْضِ أَنْظُـرُكُمْ.. فَلَا تُسَوِّدُوا وَجْهِي»، فبـأيِّ شيءٍ يستقبلُ النَّبيُّ ﷺ ذلك الخسيسَ الذي خاض في عِرض عائشةَ رضي الله عنها؟ وما عساه ﷺ أنْ يقولَ له إلا: «سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي».

فلا تلعبنَّ المشاعرُ بمُغفَّـلٍ، فيترحَّم على رؤوس أهـلِ البدع، فإنَّ طريقةَ أهلِ السُّنَّـة: الفرحُ بموتِ أقطابِ الضَّلال، ومِن ذلك أنَّه لمَّا عرف بِشْـرٌ الحـافي بمـوت المَرِيسي -وهو رأس الجَهْمِيَّة-، قال: «لولا أنَّ مَوْضِعَ السُّجودِ في السُّوق مَوْضِعُ شهرةٍ؛ لسَجَدْتُ»، ثمَّ قال: «الحمد لله الذي أماتَه، هكذا قولوا».
• خاطرة في العبادة (١٦).

وليس مَنْ خصَّصَ وقتًا لقراءة القرآن، فأغلقَ على نفسِه بابَـه، وردَّدَ الآياتِ في خَلْوَتِـه؛ ليس هو كمَنْ قرأ القرآنَ في المواصلات، أو في مكتبِ وظيفتِـه.

صحيحٌ أنَّ كِلَيْهما مأجـورٌ، لكنَّ الثَّاني لا يكـادُ يفْطُـنُ إلى معنى الآيات، وما يترتَّـبُ عليها مِن عمـلٍ؛ لكثرة الشَّواغل وصوارفِ القلبِ مِنْ حَولِه.

فإذا أردتَ أنْ تنالَ ثمرةَ القرآن؛ فاسْتَعِنْ بخَلْوَةٍ، تجعلُ فيها همـومَ الدُّنيا خلفَ ظهـرِك، وتهربُ بها مِن عيـون النَّـاس، وتأنـسُ بالخـالـق ﷻ، وأنت مُسْتَحْضِـرٌ قولَـه تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» [الحديد: ٤]، وقـولَه ﷺ عن الإحسان: «أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تراه».

ثمَّ اقرأْ بعد ذلك، كما قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: «اقرأ قراءةً تُسْمِع أذنيك، وتُوعِيه قلبَك».

ومتَّى تأثَّر القلبُ بآيةٍ؛ فكرِّرْها، فإنَّ تميمًا الدَّاريّ -رضي الله عنه- قـام يُصلِّـي في ليلـةٍ، فقـرأ سـورةَ الجاثيـة، فلمَّا وصل إلى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» [الجاثية: ٢١]، فلم يَزَلْ يُرَدِّدُها حتَّى أصبح.

وكذلك افتَتَحَتْ أسماءُ بنتُ أبي بكر -رضي الله عنها- سورةَ الطُّور في خَلْوَتِها، فلمَّا انتهت إلى قولِه تعالى: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ» [الطور: ٢٧]، قامت فذهبت إلى السُّوق في حاجـةٍ لها، ثمَّ رجعـت وهي لا تزال تُكرِّرُها.

واعْلَمْ أنَّ القلبَ إذا ذاق لذَّةَ الخَلْوَة؛ تعلَّق بها وانْتَظَرَ وقتَها، ولَم يُؤثِـرْ عليها غيرَهـا، فلا يزالُ كذلـك حتَّى يُفْتَحَ له مِن تَدَبُّرِهِ للقرآن ما تَصْلُحُ به دنياه وآخرتُـه، وصدق محمَّد بـنُ يوسفَ الأصبهـانيُّ -رحمه الله- في قولِه: «مَـنْ أراد تعجيلَ النِّعَـم؛ فليُكثِـرْ مِن مناجـاة الخَلْوَة».
• خاطرة في تصحيح المفاهيم (٨).

ليست القضيَّةُ قضيَّةَ شعبٍ طُرِدَ مِن أرضِه، ولكنَّها قضيَّةُ اعتقـادٍ ومُقَـدَّساتٍ وجهـ ـاد، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين فتحٍ وسائـرِ الحُكَّـام، وبين مجاهـ ـدي القسَّـ ـام.
• خاطرةٌ في الرَّدِّ على مُخالفي السُّنَّة (٢).

قد قصَّ اللهُ ﷻ علينا نبأَ موسى وفرعونَ بالحقِّ في أكثرَ مِن موضعٍ في كتابه العزيز، فكان مِمَّا أخبرنا به ﷻ قولُ موسى عليه السَّلام: «مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» [طه: ٥٩].

والآية -كما ترى- وردت في سياق الإخبار عمَّا جرى بين فرعونَ وموسى عليه السَّلام، ليـس فيها أمـرٌ ولا نهـي، ولا إباحـةٌ ولا كراهـة، ولا تُسْتَنْبَطُ منها الأحكام.

لكنَّ أحدَ المُنْتَسِبين للعِلْم قد أتى بما لم يأتِ به الأوَّلون، فأخذ مِن الآيـة جوازَ الاحتفـالِ بشمِّ النَّسيم -وهو يـومُ الزِّينـة عنده-، فجَعَـلَ مجـردَ ذِكْـرِه في القـرآن مُسَوِّغًا للاحتفال به!

وإذا جـاز الاحتفـالُ بشـمِّ النَّسيـم لكونِـهِ مذكـورًا في القرآن؛ جاز إذن بناءُ القبورِ على المساجد، وجاز كذلك اتِّخاذُ التَّماثيل، فإنَّ ذلك مذكورٌ أيضًا في القرآن.

أمَّا بناءُ القبورِ على المساجد؛ فقد أخبر الله جلَّ وعلا عن صنيع المُطاعِينَ والرُّؤَساءِ بأصحاب الكهف، فقـال ﷻ: ﴿قَالَ ٱلَّذِینَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا﴾ [الكهف: ٢١].

وليس في الآية دليلٌ على جواز ذلك، إنِّما هو إخبارٌ عمَّا وَقَعَ وصار إليه الأمر، وقد جاءت السُّنَّةُ بخلافِه، فروى الإمام أحمد في «مسنده» أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، قالت عَائِشَـةُ: «يُحَذِّرُ مِثْلَ الَّـذِي صَنَعُوا».

وأمَّا اتِّخاذُ التَّماثيل؛ فقد أخبر ﷻ عمَّا خصَّ به نبيَّه سليمان مِن عظيمِ المُلْك، ومنه تسخيرُ الجِنِّ له، فقال تعالى: ﴿یَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا یَشَاۤءُ مِن مَّحَـٰرِیبَ وَتَمَـٰثِیلَ﴾ [سبأ: ١٣]. قال الضَّحَّاك: كانت كالعُقْبان والنُّسُورِ عَلى كُرْسِيِّهِ، ودَرَجاتِ سَرِيرِهِ؛ لِكَيْ يَهابَها مَنْ أرادَ الدُّنُوَّ مِنه.

وقد جاءت السُّنَّةُ بتحريم ذلك في شريعتِنا؛ فروى الإمام أحمد في «مسنده» أنَّ رسول الله ﷺ قـال: «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ».

إذا تبيَّن هذا؛ فاعْلَـمْ أنَّ المقصـودَ مِن قصص القـرآن الوَعْـظُ وضربُ المِثـال، ولا يُستـدَلُّ بها على أحكـام الشَّريعة، ومَن ادَّعى جوازَ العملِ بما في أنباء القرون الماضية مِن غير اعتبارٍ للنَّسخِ؛ فقد أعظمَ الفِرْيَة.

ومِن الفِـرَى أنْ يُقـالَ بجـواز الاحتفـال بيـومِ الزِّينـة وغيرِه من أعيـاد الجاهليَّة، وقد روى الإمام أحمـد في «المُسْندِ» عن أَنَسٍَ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا هَـذَانِ الْيَوْمَـانِ؟» قَالُــوا: كُنَّا نَلْعَـبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُـمْ بِهِمَا خَيْـرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ».

فهذا هو الحقُّ الذي يعرفُه أهلُ العِلْم، وقد أمرَهم اللهُ ببيانِه، وما سواه فهو الباطل واتِّباعُ الهوى، فنسألُ اللهَ السَّلامةَ مِن كلِّ مُتَكَلِّمٍ فصيحِ اللِّسان مُضِلّ.
More