فانتبه يا بنيَّ لنفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين، ما دام في الوقت سعة، واسقِ غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة، ذهبت لذة الكسل فيها، وفاتت مراتب الفضائل.
واعلم يا بني أن الأيام تُبسط ساعات، و الساعات تُبسط أنفاسًا، و كل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم.
صبيحة يوم من أيام نوفمبر الماضي "جار جديد" : في الفناء الكبير : في فناء الخالة سعاد الكبير كان محمد شندي يلعب مع إخوته حينما صدر صوت من الجزء الآخر من المنزل الذي استأجروه، سارع إلى إخبار والدته أن أحداً ما بالجوار، فقد سمع صوت امرأة تنادي طفلة، علم ذلك من درجة الصوت التي أتت من رد الطفلة، كان الأمر غريباً فلم يخبرهم أحد أن الجزء الآخر به مستأجرون، تساءلت مروة عما إذا كان السكان من أهل القضارف أم هم ممن أتت بهم الأقدار في موجة نزوح لفظتهم على أراضي القضارف، تحرك الفضول داخلها، فققرت أن تسأل. بيت الخالة سعاد قُسِم إلى نصفين بالقش، هذا القش يسمى عند أهل المنطقة "شرقانية"، بساط قش يدوي الصنع معقود في شكل نسيج محكم يعلّق ويربط على عيدان قوية، يستخدمه أهل القضارف لعمل الرواكيب وسقوفها والفواصل؛ فهو يبرّد الجو ولا يترك الحر يتسلل للمنازل، كما أن الأمطار لا تبليه ولا تتلفه يتحمل كل الأجواء، آثرت مروة أن تنادي الجيران من بين ثنايا "الشرقانية التي تنتهي بقطعة ستارة ثبتت لتكون كالباب أو" النفّاج" بين قسمي المنزل، هكذا دون حوائط أو أسلاك شائكة لا أحد يعتدي على حرمة أحد ولا أحد يتطفل على أحد بالرغم من أن هذا الفاصل ليس حاجزاً حقيقياً، لكن نفوس أؤلئك البشر قد علمت الحرمات. تقدمت مروة ومعها أبناؤها وأبناء أخواتها، تصفق بيديها وتنادي : "سلام عليكم يا ناس البيت، سلام، سلام"،رد عليها صوت من خلف الستار :"اتفضلي مرحب، أهلاً وسهلاً".
على الجانب الآخر : كنت قد جلست أغسل الأواني تحت ظل الشجرة، في جو يخلب الألباب يقاطع نسماته رزاز مطر ينعش الأنفاس، وتنتفض له وللنسمات شجرات الخالة سعاد، مرة خيّل إلي أنها تتوب إلى الله وتسبح وترفع آية التوحيد، ومرة أخرى سرحتُ بخيالي فخيّل إلي أن الريح رجل سوداني يرقص في ساحة عُرس وسط أهله وأصحابه وشجرة الخالة سعاد هي العروس فكلما هب النسيم أشاحت العروس بعنقها مبرزة مفاتنها كما شاع وسط أهلنا باسم "الشبّال"، كنت على هذا الحال أسرح في الطبيعة وأمد بصري وأمعن في ملكوت الله الذي تجلى في مدينة القضارف، وأواصل عملي وأغسل الأواني كنحلة دؤوب لا تخرج عن ناموس العمل، أملأُ الطاسة من البرميل فالقضارف على غير حال مدن السودان ليس بها مياه سوى التي يشتريها أهلها من "السقا"، يدور على الحي بعد صلاة الصبح وقبيل صلاة العصر - يتخير أبرد الأوقات وأكثر الأجواء ملاءمة؛ لئلا يرهق نفسه ودابته، يبيع مياه الآبار من عربة "الكارو" ويسترزق ويعود لبيته شاكراً حامداً على ما رزقه الله إياه. المهم لم تكن آنية الغداء كثيرة؛ فمُذ سكنا في منزل الخالة سعاد لم نبتع أواني سوى التي أتى بها حسام مسبقاً، صرنا نطبخ في حلة واحدة ونأكل الطعام من صحن أو صحنين، حياة بسيطة، هادئة، لا صخب فيها سوى أخبار الوباء، في جلستي تلك انتبهت لبعض الصرخات البريئة التي تأتي من الجزء الآخر، أرى الأقدام تتحرك قرب "الشرقانية"، يبدو أن الخالة سعاد أخيراً قد وجدت مستأجراً للدار، رزقها الله ووسع عليها في كل أمر. أكملت غسل الأواني وصرت أجففها لأدخلها للغرفة، تلك الغرفة التي كانت غرفة نوم ومطبخ وصالة استقبال للضيوف في نفس الوقت. ترجلت عن ذلك الحجر الذي اتخذناه مقعداً لأداء مهامنا اليومية وحملت صينية الأواني الصغيرة، وقبل أن أدخل الغرفة قاطع أفكاري صوت امرأة تصفق وتسلم من بعيد :"سلام عليكم يا ناس البيت، سلام، سلام"، فرددت على الصوت : "اتفضلي، مرحب، أهلاً وسهلاً".... يتبع.
في تاريخ كل إنسانٍ مهما كان دينه ونحلته واعتقاده موقف، شهد فيه ربه بقلبه، وعاين عنايته ورحمته ورفقه بعبده، فمنا من كان هذا مفتاحه لدخول فردوس العبودية، والخضوع لربه سبحانه وبحمده، يشهد جماله وجلاله. ومنا من علم، فنسي، وطال عليه الأمد، فتغافل جاحدا أو اجترأ منكرًا ملحدا!
والعارف بربه، لا تمر عليه طرفة عين لا يشهد فيها فضل رب العالمين، وكرمه، ومنته، وستره وحلمه، فهو مستغرق في مشاهدات الجمال، مسافر في منازل القرب، حبا وشكرا، واطمئنانًا وفرحا! وهذا هو الحمد: ثناء بحب! فكأنه تدلى له عنقود من فردوس سيدنا ﷺ: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني! لا إله إلا أنت! من نحن لولا أنت!!
«الخيال.. هو ليل الحياة الجميل، هو حصننا وملاذنا من قسوة النهار الطويل.. إن عالم الواقع لا يكفي وحده لحياة البشر. إنه أضيق من أن يتسع لحياة إنسانية كاملة». — توفيق الحكيم، عصفور من الشرق
تعجبني فكرة العودة الساكنة إلى تلك المنازل التي غادرناها صباحاً،مشاهدة أضواء المدينة مع لحظات الغروب، الطريق وهو يودِّع قبلات الشمس الأخيرة، صوت المفتاح وصرير الباب، تلك الأوجه التي اعتدنا عليها، ذلك الفراش الدافئ عليه ذاتُ الثوب المثقوب، صوت ضجّة العالم تخفتُ وتتلاشى رويداً رويداً كأننا نودِّع المدينة الصاخبة إلى ريفٍ هادئ، صوتُ أفكارنا وهي تغادرنا تحت سُلطان النوم وحُكمه، كُوب الشاي اللذيذ أو القهوة التي نختم بها اليوم. تلك العودة الروتينية تمثِّل فكرة السكون بعد الصخب والراحة بعد التعب، ذلك السكون هو أحد معاني السعادة، وهذا الروتين هو نوعٌ من الراحة، وتلك الوجوه هي معنى الأمان، هناك حيث الانتهاء من كل الخطاوي المُرهقِة نعانق اللحظات الجميلة التي ترتاح فيها أقدامنا من طُول المسير، على أنغام هادئة من شريط الذاكرة هناك ينتهي التعب ولو كان انتهاء لحظياً، ننعم بساعاتِ راحة قبل استئناف المعركة من جديد. 💙
"الفوز الذي يجب أن يحققه بعض الناس في الدنيا، هو أن يتجاوزوا ما حدث، أن يتجاوزوا قصة ما بكل تفاصيلها، قصة قللت من قدرهم عند أنفسهم، وأشعرتهم بأنهم مهزومون بالفطرة، أن يتوقفوا عن الاستمرار في لوم أنفسهم، ويرفعوا سورهم، ولا يسمحوا لأحد ما أن يحدث فوضاه على أبوابهم، الفوز أن يشعروا أنهم قادرون على أن يُكملوا المسيرة بعقل واعٍ ونفسية إنسان لا يحب أن يكون ضحية، ولا يحب أن يقدم الكثير مقابل لا شيء.." -لقائله.
"الحياة فَنٌّ، والسرور كسائر شؤون الحياة فن، أول درس يجب أن يُتعلَّم فى فن السرور، قوة الاحتمال، فأكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشىء الحقير، من أهم أسباب الحزن ضيق الأفق، وكثرة تفكير الإنسان فى نفسه، حتى كأنها مركز العالم".