تتقاعس الأنامل عن تسطير حرف واحد، رغم علم الإنسان بندرة الكاتبين وعجز الواصفين، والسبب نفس تخاطبني: هل من سامع لاسغاثات امتدت لعام وزيادة، ثم وقت قصير ومهام كالجبال.
ثم أتيت هنا -رغم ضغط المهام- بعد ضيق في النفس من حال يعجز الواصفون عن وصفه والراثون عن رثائه.
رفع العدو علينا سلاح الجوع، وأحاطنا بجند من أبناء جلدتنا يسرقون رغيفنا الذي لا يملك الغزي في أحسن أحواله غيره.
اسيقظت فجر اليوم أفتقد من أيام رغيفا تلوكه أسناني فانتظرت مليا، حتى خرج النور ونزلت السوق فما وجدت إلا لقما تباع الواحدة ب( اثنين شيكل) ثم يسمونها بعد ذلك رغيفا.
في كل صباح يستيقظ الأب الغزي حاملا هم أزيز بطون أطفاله، من أين سيطعمهم وكيس الطحين بسعر فلكي، ومحفظته لا تحوي إلا بعض الشواكل، والأسواق لا يسوسها إلا جزع جشع.
إني لأبكي في هذه المأساة شبابا يحملون آمالا يعجزون عن السير فيها، قد غلقت الحرب الضروس كل باب يسعون إليه، وملخص يومهم: في النهار نقل الماء، وجلب فتات المال وفي الليل لا ضوء ولا دفء ولا طعام، ثم يضع رأسه على وسادته ويقرأ وجهه ورد البكاء قبل النوم، والسلام على آمالهم.
ضعف في البيان أصاب القلم، وحال يشق على الإنسان عجزه عن وصفه.
بعد جولة في السوق وجدت (بسكوتة) بضعف سعرها، فكر صاحبكم ثم نظر، وقال: سعرها مرتفع ولن تقوت جسدك المنهك ووالدك بحاجة للمال، فمضيت إلى موعدي مع الأستاذ وتركتها لبائعها.
وصلت البحر ورأيت مشهدا يبكي الحجر والله، ضربت العاصفة الليلة أرجاء المدينة، ولإخوانكم خيام مذ نزح الناس من مدينة رفح لا مكان لها في المنطقة (الآمنة) فلم تجد غير الشاطئ، فكان وقعها عليهم مرير، وابتلاء من الله شديد.
دمر الماء خيامهم، وأغرق أغراضهم، وناموا على قارعة الطريق، وفي الصباح وجدت أحدهم لا يملك ثمن نقل أغراضه إلى شرقيّه، فضلا عن أن يشتري خشبا وأقمشة ليصلح خيمته.
مأساة ندر ذاكروها، وقل حاملوا همها، أمة بأسرها مغيبة عن المشهد، شبابها في وحل التفاهات، ودعاتها منشغلون في الخلافات.
والله سبحانه وتعالى يرى عباده الضعفاء، ووعده لهم أن العاقبة تمكين واستخلاف، وقد واسانا قدوتنا ووصف بعضكم لنا من قبل فقال: هم غثاء كغثاء السيل.
أعسر ما في بناء الأمم هو اصطناع الرجال؛ لذلك مع تفهمي لمن يعجلون لمواساة أنفسهم وتهدئة ألمهم= ما من رجل يعوض فقد رجل في تاريخ الأمم كلها، وما يكون الثاني مثل الأول ولو فاقه في أشياء فهو لا يعوضه، وتاريخ صراع الأمم كلها جوهره كيف تصرع أمة رجال عدوها.
دعوا عنكم التجلد الكاذب، وابكوا فقيدكم فإن الرجال لا تُعوض.
أوصيك بالحزنِ لا أوصيك بالجلدِ جلّ المصابُ عن التعنيفِ والفندِ
إِنّي أُجلُّك أن تُكفى بتعزيةٍ عن خير مُفتقَدٍ يا خير مُفتَقِدِ
سمعت خبر استشهاد قائدنا المغوار (يحيى السنوار) عليه رحمة الله، فعَلَتني والله مسحة من الكآبة والحزن، ثم ذهبتُ بعد صلاة المغرب لقراءة الخبر عيانا على الشبكة، فرأيته ببدلته العسكرية مرفوع الرأس شامخا.
وقبل أن أشرع في المقصود اعلم أخي أني ما جئت هنا لأماذق المجاهدين أو مُوَاليهم، ولا لأخبرك أني محب لأحذيتهم عاشق لخطوهم، بل مقهور من شرذمة من الناس لم يغادر الطعن أفواههم من السابع المجيد فوق قهري من أعدائنا خسفهم الله.
أتت هذه الصور خافضة لرؤوس هؤلاء، رأيناه لابسا زي الكفاح والجهاد، حاملا سلاحه، مقبلا إلى ربه غير مدبر، لا كما ظن الظانون وتحدث المرجفون.
إن شحوب وجهه ونحول بدنه يخبرك أيها الجندي أن قائدك ذاق مرارة الجوع كما ذقته لا كما أشاع المنافقون.
اليوم يوم فرح فيه أعداء الله وأعداء المؤمنين، فويل ثم ويل للفرحين!!
إن هذا الرجل قد صعدت سيرته اليوم منبر الأمة وقالت -لمن كان له قلب أو ألقى السمع- رسائل وعظات أبرزها:
- إن الله يختار لدينه رجالا صادقين يحملون همه، ويرفع بهم شأنه، ويذل بهم أعداءه، فلا تأخذنك شهواتك وملذات نفسك بعيدا عن طريق العمل لنصرة الحق وهداية الخلق.
- إن الله معل شأن هذا الدين بك أو بغيرك، فإياك إياك أن تُستبدل ولا تستعمل.
- إن أنموذج غزة الذي قدمَته حري أن يكسر أبنية اليأس التي وضعتموها أمامكم ومنعَت نفوذ مشاريعكم.
- إن القوة هي السبيل الوحيد لإذلال الطغاة وإعلاء كلمة الحق، فاخلعوا قمص العجز والضعف وقوموا للدين عاملين ساعين.
- لا تستوحش من قلة السالكين وتباطؤ العاملين وتولي المنافقين، فلئن صدقت الله في قولك ليتمن رسالتك وليعلين شأنك، وتذكر (أنت الجماعة ولو كنت وحدك).
أخيرا، تذكر أن هذا الرجل -وأمثاله- سيقف أمامه يوم القيامة الطاعنون والشاتمون واللاعنون ليأخذ حقه منهم، نسأل الله العافية.
إني لأرجو أن يصدق قول الله سبحانه وتعالى فيه { مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبديلًا }[ الأحزاب: ٢٣ ].
نسأل الله أن يتقبله شهيدا، وأن يرزقه مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.