تِشرين ليست مجرد أحرف، أنما هي اقتباس غزل حقيقي، تخيل عوضًا من قول أحبكِ، أن نقول تِشرين، تِشرين جدًا. إن المشاعر التي تصيب المرء بهِ يجعلك في حيرةٍ كيف للأيام أن تبدو هكذا، دافئة وغريبة، باهتة ومفعمة بالأمل، شيء ما يتعلق بالخريف هو من سيجيد تفسيره!
منذ سنوات في آخرِ ساعاتهِ، كانت أمي تنتظر رؤيتي لأولِ مرة، لستُ أعلم عن شعورها حينها، لكني أعلم أنها أحبتني كثيرًا، كثيرًا للحدِّ الذي يجعلني أنثى مليئة بالحُب والعطف والحنان، تمامًا كأمّي، ملامح الطفولة دموعي وألعابي شقاوتي أيضًا، تحفظها بحبٍ في السماء، فراشتها وأميرتها، وروحٌ من روحها، قلبها يسكن قلبي، وذكراها في روحي.
ابنة ملاك عظيم، عظمتها نواسي بها غيابها المُر، أكتوبر يعيدني إليك، كلما كبرت زاد الحنين، وقرب اللقاء، زاد بي الفخر أني ابنة عظيمة مثلكِ، أحمل ذكراكِ في داخلي أكثر، وحدكِ من يستحق أن يكتب له، أني أحيا منكِ ولأجلكِ، كل عام وأنتِ الحُب النقي يا أمي.
تِشرين ختامهُ زهرتكِ، ختامهُ أحلامٌ كثيرة، أصدقها رؤيتك، كل عام وأنتِ في داخلي أعظم روح أحبتني، كل عام وأنا عظيمة لأني ابنتكِ، كل عام وأنا وأحلامي لأجلك، أحبُّكِ كل يوم أكثر، واليوم أكثر فأكثر.
كنتُ دائمًا ما أرددها "أخاف من أن أُنسى، ألا يتذكرني أحد بعد وفاتي" تلاشى هذا الخوف حينما أيقنت أننا قد نُنسى في الحياة، في الوجودِ أيضًا، سيمر كيومٍ عادي، قد لا يعلم البعض عنك، منسيٌّ في اللاوجود، ثم يتردد في داخلي ملامحًا تُشبه ملامحي، صوت عميق يخبرني: "جميعنا لن ننسى، هناك من سيروي عنا بعينينِ ممتلئة بالحنين، هناك من يرى بنا الحياة، يؤمن بنا حين نيأس من أنفسنا، تلمع عينيّه بحبٍ وبفخرٍ لأجلنا، هناك في الأفقِ البعيد من يدعو لنا، ستصلنا تلك الرسائل، نحن لم نترك من رحلوا عنا دون وداعات، أرسلنا الكثير من الرسائل إلى الله، غادرتنا أحرفنا إليهم، تارةً كانت ترد علينا النجوم، وتارةً تمطر، نؤمن حينها أن رسائلنا قد وجدت عناوينها، أننا أخبرنا من دفنوا في الأرضِ أن موتهم ليس النهاية، وأن اللقاء يقنيًا من الله لنا، لمَ لا نرى الموت بنظرةٍ مختلفة؟ كل من قُتل فؤادنا بغيابهِ رحل إلى السماء لجوارِ من يحب، ربما النداءات من جعلته يرحل، ربما الموتى أرادوا لقائهم!
ذات مرة استوقفني مشهد درامي، طفل يتساءل: "حينما أكبر و أموت هل ستعرفني أمي بملامحي هذه؟" أظن أنهم يراقبوننا، يحفظون ملامحنا عن ظهرِ قلب، لكني أتساءل أيقتلهم الحنين مثلنا؟ لمَ لا يطلبون الله رؤيتنا؟
مازلت أتذكر أكتوبر العام الماضي، وأنا أتخطى المشاهد لفرط هشاشتي، أتعثر بأحدهم فيسود العالم في عينيّ، تتسلل الرهبة في كل خلاياي، فأتمنى لو ينتهي العالم، نموت دفعةً واحدة، لا مزيد من الوداعات المُرة، لا مزيد من الموت المطلخ بالدماء، قلبٌ مثلي لا مكان له في هذهِ الأرض، تقتله الحياة بصدماتها عوضًا من أن يصبح قاسيًا، يصبح أكثر حساسية، يشمئز من الأذى، كل مؤذٍ في نظري هو مشروع مصغر لإسرائيل، دون قلب! مازلت أتحاشى المناظر، ومازالت المناظر تدور في مخيلتي، تصيبني بالجنون تارةً كيف يمكن للمرء أن يصبح قلبه وحشي هكذا، كيف يتلذذ بدماء الأبرياء، أتنبض قلوبهم مثلنا؟ أيُّ مرض يصيبهم ليفقدهم السيطرة، أيُّ لعنة جعلتهم بهذهِ البشاعة، وأيُّ قلب هو من يتجاوز هذا؟ كيف يحيا المرء يومه دون أن ينهار، كيف تعمل عقولهم، مازلتُ اشمئز من كل من يؤذي المرء بخاطره وروحه، فكيف بمن يبترها دون رحمة! تتردد الأصوات في داخلي، فأتساءل ماذا لو كنت مكانهم، ماذا لو من رحلوا هناك جزء مني؟ تلك الاسئلة تشعرني بالأنانية، نحنُ فقط ننهار حين يصيبنا الأذى، لا حين يصيب الاخرين، نمر على أحزانهم تؤلمنا قليلًا ثم نعود لنغرق في يومنا، على الرغمِ من أحداثه المتكررة، ننسى نتناسى، لأنها ليست أرواحنا، ليست دمائنا، يشمئز المرء من فرطِ أنانيتهِ كيف يتخطى هذا ويغرق في أحزانه التافهة؟ أيُّ حزن أعظم من هذا؟ أن تصبح غريب في أرضك، وحيد بين أشلاء عائلتك، أن تبتلع الأرض كل ما حولك، ثم تعجز عن فعل شيء، عاجز أنت لا تملك سوى صوتك المبحوح، وقلبك المكلوم، وكومة أشلاء لأحلامٍ وضحكاتٍ كثيرة، تخيل أنها تُعنيك، إن الخيال مرهق فكيف بمن يعيشه، أخجل من كوني هشة أتحاشى رؤيتهم هكذا بينما هم يعيشون المشهد عن قرب، يودعون الحياة كل ثانية، يعيشون الوحدة والخوف كل يوم، إن العالم مقرف حد الغثيان، أرخص ما فيه روح الإنسان وخاطره..نجا من مات، ومات من نجا.
صغيرتي التي تكبُر، بقلبٍ قطنيّ وعينيّن بُنية، وروح نقية تكبر عمرها الطفولي، مرحة تثبت أن أحزان الأرض مجرد مزحة، عظيمة كالوطن.
ختامه ورد أهدتنا أمي بُستان ورد، أزهرت منزلنا، يكبر البستان كلما ابتسمت، يزهر أكثر، تتورد الحياة برفقتها، أهدتنا هي أُمي لتُنير المنزل، لتزرع البهجة أيضًا لذا اسمتها فرح!
تكبرين تكبر الأحلام، تشرق الشمس، تبتهج الأيام، كل عام وأنتِ عظيمة ابنة عظيمة، كل عام وأنتِ صغيرتي، رفيقتي والحياة، كل عام وأنا أحبك أكثر، ليكن دربكِ منيرًا مبهرًا كابتسامتكِ دمتِ بخير أنتِ والوطن.
كانت سنوات مليئة بالحكاوي، ضحكنا بكينا سويًا، كانت الأيام تبدو دافئة رغم المشقة، كنا نمضي بفخرٍ كيف أننا لم نستسلم، كيف أننا قاومنا ليالي الأرق، فكيف للمرء أن يحيا وفي عمقه حُلم؟
تحاوطك الهلاوس ذاتها ماذا لو لم يزورنا الزهايمر في نهايةِ المطاف؟ ألا توجد طرق أكثر حنانًا ليتعايش المرء بها مع ذكرياته؟ أليس بائسًا أن تبقى عالقًا في المتاهاتِ نفسها؟ ما زال يراودني سؤال: "كيف يحيا المرء دون الأشياء التي ترك بها قلبه، كيف يمكن لفكرةِ غيابها أن ترافقه إلى الأبد، أليس هناك نهايات للنهاياتِ أيضًا؟"
تغريني رغبة الاختفاء أن أمضي إلى ما لستُ أدري! وأترك خلفي ذاتي وأمنياتي آمالي وكل من أحب أن أتجرد مني ومن فرطِ شعوري أن أتلاشى في الهواء كالسراب أن تبتعلني تلك الفجوة التي لا وجود لها.
بائسٌ يحمل مشقة المضي في الطرقِ الخاطئة عائدٌ من حربٍ ترك بها روحه وحدهُ الأمل من قتله تسرب في خلاياه وأنتزع منه الحياة يتنهد بحمقٍ يرجوه بخجلٍ ألا تشرق الشمس مجددًا أن يرحل في الظلام دون أمل أو أحلام دون ذكرى واحدة أو لحظة واحدة تعيده إليه ويصمت ذهنه.
أحيانًا أشعر بالرغبةِ بالبكاء كطفلٍ في الطرقات، فيسألني أحدهم: "ماذا تريدين؟" لأجيب: "أريد أمي" كثيرًا ما تنتابني لهفة اللقاء كالأطفال بعد غياب صغير، لا شيء يمحق العقل البشري كفكرةِ الموت واختفائهم للأبد! ثم تخرج سليمًا من مجزرة صداها "كيف عشت عمرًا من دونهم؟" لا الموتى يعودون، ولا نحنُ نذهب إليهم، كل الذين ابتلعتهم الأرض، ابتلعت معهم أرواحنا، وأورثتنا عنهم الحنين، ليتنا نرحل أو يعودوا.
كانت تبدو كغصة ستلتهمني، كشيء عالق في منتصفِ حنجرتي، شيء يفقدك الرغبة في الحياة، ثم يبهت كل شيء في عينيّك، واحدٌ تلو الآخر الناس الأماكن، المواقف، والحياة، فتبدو الحياة ثقيلة، كان يشبه الموت لكن دون نهاية، يشبه الغرق كأن روحك تطفؤ وتطفؤ لكن لا أمل، كان ثقيلًا على أن يُشرح، عصي الفهم، ثقيل حد الكآبة، وغريب كاللاشيء، ووفي كظلك، كان باهت كالروح، باهت كأحلامه.
ثمة وداعات ناقصة وأسئلة لا تجرؤ على طرحها خوفًا وحيرة لا تنتهي هناك صوت يتردد في داخلك تصمته ولا يصمت تدفنه ولا يموت تخبئه فتصيبك الرجفة وثمة "لماذا" كبيرة بحجمِ الكون تحطيك بكل ثانية!