أعرف أن القلم مهما تطاول في قامته فلن يصل إلى كعب البندقية، وأن الحبر مهما قال بلاغةً فسيبدو ركيكا في حضرة الدم! ولكنها كلمات جاشتْ في صدري فأردتُ أن أكتبها، وقد قال غسّان قبلي: إن كل كلامنا هو تعويض صفيق لغياب البندقية!
يا تيجان الرؤوس: إنها المعركة الأولى في التاريخ التي تسبق نتيجتُها نهايتَها! فهنيئا لكم هذا النصر الذي لن يُغيّره توقيت نهاية المعركة! لقد أحدثتم في روح هذا الكيان شرخا لن يُرمَّمَ أبدا، ودققتُم في نعشه مسمارا لن يستطيع نزعه، وأعدتم إلى الأمة كلها روحا كانت قد فقدتها، فكأنها نفخة إسرافيل في الناس الميتة أن قوموا!.. ثمة مشاعر عِزَّة زرعتموها فينا أنتم لا تعلمون شيئا عنها، فالعصفور لا يعلم ما يُحدِثه صوتُه في قلوب سامعيه، والوردة لا تستطيع أن تشم شذاها.
يا تيجان الرؤوس: إن الله تعالى لا يختار لأنقى معاركه إلا أنقى جنوده، وإننا والله نغبطكم على هذا الاصطفاء؛ وإن الله تعالى تأذَّن أن يبعث على أحفاد القردة عبادا له يسومونهم سوء العذاب، فكنتم عباده الذين اختارهم؛ وإن النبي ﷺ أخبرنا أن خير الرباط رباط عسقلان، وقد رأينا الكتائب تجتاحها! يكفيكم والله شرفا أن تكونوا تفسير الآيات في المصحف، وموعود النبي ﷺ في كتب الحديث، فنتقوّى ونزداد إيمانا على إيماننا أن هذا الدين حقٌّ، وأنه لا غالب إلا الله، وأنتم أهله وصفوته، وإنكم لغالبون بإذنه.
يا تيجان الرؤوس: نعلم أنكم نهاية المطاف بشر، وأن الحرب موجعة، والقصف أليم، والتهجير مضنٍ، وفقد الأحبة غربة! ولكن الله لا يضع ثمارا على غصن لا يستطع حملها، وإنه سبحانه يُكلِّف بالممكن لا بالمستحيل، وإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون.. وقد مضت سُنَّة الله في الصراع بين الحقِ والباطل أنّه لا تمكين بلا امتحان، ولا أمنَ إلا ويسبقه فزع! في غزوة الخندق بلغت قلوب الصحابة الحناجر؛ فالأحزاب من الخارج، واليهود والمنافقون من الداخل، وقد راهنوا جميعا أنها أيام الإسلام الأخيرة!. وبعد عشر سنوات من غزوة الخندق كان الصحابة يدكُّون إمبراطوريتي الروم والفرس! وإنكم اليوم تُعبِّدون الطريق إلى المسجد الأقصى، فوالله ما هي إلا سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، إلا ونحن نصلي في المسجد الأقصى، محرَّرا بفضل الله ثم بفضل جهادكم وثباتكم!
يا تيجان الرؤوس: لستم وحدكم، وإن بدا المشهد كذلك.. من ورائكم أُمّة تغلي، ومارد محبوس في قمقمه دبَّتْ فيه الروح، وأحيته مشاعر العِزّة وشوَّقته إلى زمن الفتوحات، ولَيُغيّرنَّ الله الحال إلى حال أخرى بإذنه وكرمه! فإن خذلتكم الجيوش فقد أكبرتكم الشعوب، وإن لم تساندكم الطائرات فقد ظللتكم الدّعوات. ثمّ ألستم الظاهرين على الحقِّ في بيت المقدس وأكنافه؟. ألستم الموعودين بالخذلان من قبل أن تُولَدوا، ولكنكم المبشَّرون بالثبات حتى يأتيكم أمر الله وأنتم كذلك؟! طبتم، وطاب جهادُكم، وقبلاتي لأقدامكم قبل رؤوسكم.. والسلام!
صلي على من قال : " إنمَا النساء شقَائق الرجال ما أكرَمُهنَ إلا كَريم و ما أهانهُنَ إلا لَئيم " اللهُم صلّ وسلم على نبينا مُحمد ، من كانت بعثتهُ عافية لقلوبنا ، وشرحًا لصدورنا ، وجبرًا لكسرنا ، ونورًا في دروبنا ﷺ..")!!!!❤️
الحمدُ للَّه أنّنَا مأجورون.. على كلّ لحظة قاسيةٍ، وكل دمعةٍ، وكل ألمٍ، وكل جُهدٍ ومعاناة، وكُلّ صبر.. شعور الإنسان في أضيق لحظة عليه أنّ اللَّه يمنُّ عليه، ويصاحبه طول دنياهُ وآخرته، ويرحمُه من آلامِه التي تنهشهُ كل ليلة، وتأكلُ من طاقته وتُنقصُ من راحته...
في كتاب صيَّاد القصص لإدواردو غاليانو: بدأتْ حربُ القوقاز عام 1817، واستمرَّتْ خمسين عاماً تقريباً، هربَ خلالها مئات آلاف "الشَّركس" عبر البحر! وفي رحلة الهرب من الموت، ماتَ منهم آلافٌ غرقاً في البحر، بسبب قواربهم البدائيَّة المتهالكة! حرَّمَ "الشَّركسُ" النَّاجون السَّمكَ على أنفسهم مئة عامٍ، كي لا يأكلوا لحوم إخوانهم التي تغذَّتْ عليها الأسماك!
وفي صحيح البخاريِّ: أُتيَ عبد الرَّحمن بن عوفٍ بطعامٍ وكان صائماً، فقال: قُتِلَ مُصعبُ بن عميرٍ وهو خيرٌ منِّي، كُفِّنَ في بُرْدِه، إن غُطِّيَ رأسُه بدتْ رجلاه، وإن غُطِّيتْ رجلاه بدا رأسُه! وقُتلَ حمزة، وهو خيرٌ منِّي! ثمَّ بُسِطَ لنا من الدُّنيا ما بُسِطَ، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجِّلتْ لنا! ثمَّ جعلَ يبكي حتى تركَ الطَّعام!
لا تَنسُوا شهداءكم! الشُّهداء لا يموتون بموتهم، وإنِّما يموتون بنسيانهم! ونحن حين ننساهم نكون قد رضينا بقتلهم مرَّتين، مرَّةً بيد عدوِّهم، ومرَّةً بأيدينا! ومن ينسى القتيل، لا يلبث أن ينسى القاتل! ومن نسيَ القاتلَ محكومٌ عليه أن يموت على يده، كما ماتَ الذين أهالَ عليهم تراب النِّسيان! كان علي عزت بيغوفيتش يقول: إنَّ المجزرة التي تُنسى تتكرر!
لا تنسُوا غزَّة! لا تنسُوا القتيل، ولا تنسُوا القاتل! احفظُوا وجوه شهدائكم جيِّداً، واحفظُوا أيضاً وجوه القتلة! تذَّكروا لأيِّ شيءٍ قُتلَ القتيل، ولأيِّ شيءٍ قتله القاتل! تذكَّروا شُهداء العبور المجيد، الثُّلة الصَّادقة التي لا تُشبه عفن هذه الدُّنيا! هؤلاء الذين تربُّوا في حلقات القرآن الكريم حين كنَّا على غفلة! هؤلاء الذين حفروا الأرضَ بينما كنَّا نلهو! هؤلاء الذين صنعوا سلاحهم بأيديهم حين كنَّا نستورد كلَّ شيءٍ من الإبرة حتى الصَّاروخ! تذكَّروا نساء غزّة اللواتي تفتت أجسادهن بقذائف الغرب الذي يُحاضر فينا بحقوق المرأة! تذكَّروا أطفال غزَّة الذين تبخَّرتْ أجسادهم بصواريخ الغرب الذين يُحاضر فينا بتغيير المناهج، كي يكون أولادنا كيوت، ولا مخالب لهم، كي يضعوا الحِبال في رقابهم ويقتادوهم إلى المعالف أو الذَّبح! تذكَّروا العائلات التي مُحيت من السِّجلات! كلهم أهاليكم، وأنتم أولياء الدَّم، وأصحاب الثَّار!
لا تنسُوا سوريا! تذكَّروا كيف قُتلَ الأطفال بالكيماوي في الغوطة، فثارت حفيظة الغرب خوفاً على البيئة، اقتلوهم بالبراميل المتفجِّرة فهي أقل ضرراً بطبقة الأوزون! تذكَّروا صيدنايا مسلخ هذا الزمان! تذكَّروا اللحوم التي قُطعت وأصحابها أحياء! تذَّكروا الأجساد التي أُذيبت بالأسيد! تذَّكروا أخواتكم اللواتي اُغتصبنَ على مرأى ومسمعٍ من حضارة فاجرة لأن البديل لم يكن يومذاك مقنعاً لهم، ولأن الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه ولو كان سفَّاحاً! نحن في عيونهم مجرَّد أرقام، مئة ألف بالناقص ليست مشكلة كبيرة! هؤلاء الذين يبكون لقطة تُدهس في الشارع، لم يذرفوا دمعةً على أكوام جثثنا!
لا تنسوا العراق! تذكَّروا كيف أُحرقت الفلوجة، لأنَّ النِّفط أثمن من الدَّم! تذكَّروا سجن أبي غريب، وفظائع الفاتحين الجُدد الذين جاؤوا على صهوات الدَّبابات، يُحاضرون فينا بالديمقراطيَّة وحقوق الإنسان!
تذكَّروا السُّودان، هذا الشَّعب الطّيب الذي يُباد بصمتٍ، لأنَّ مجازر أخرى أخذت منه الأضواء! عليهم أن يُقتلوا ليلاً ونهاراً، لأنَّ المعادلة لم تستقِمْ بعد! لهذا ترى أن القتلة يحصلون على السِّلاح من بعضنا، بينما يستكثرون على القتيل رغيف الخبز! تذكَّروا ميانمار التي أُحرق أهلها أحياءً لا لسبب غير أنهم قالوا: ربُّنا الله! تذكَّروا الشيشان التي سُفكَ دمها دون أن يُحرّك أحد ساكناً، القتلى هناك مسلمون فلا بأس، أما أوكرانيا فعلى دينهم، والعلمانيون لا يتركون صليبهم وإن تركنا نحن قرآننا! تذَّكروا البوسنة، خمسون ألف مسلمة اُغتصبت في أحضان أوروبا المتحضرة، وحين ملُّوا قتلوهم في سيبرينتشا شرَّ قتلة! تذكَّروا اليمن، وليبيا، وكل مكانٍ سُفكَ فيه الدَّم لأن نتيجة صناديق الاقتراع لم تعجبهم! تذكروا ديمقراطيتهم التي تُشبه أصنام العرب المصنوعة من تمرٍ في الجاهلية، يعبدونها حيناً ويأكلونها حيناً آخر! لا تنسُوا القتيل وإن واراه التُّراب، ولا تنسوا القاتل وإن غسلَ يديه ولبس بذلة أنيقة! من ينسى ستجبره الأيام على أن يتذكر، ولكن وقتها لن يكون قد بقي له الكثير، سيموت وغصته في قلبه لأنه نسي!
السّلام عليكَ يا صاحبي، تقول لي: كان عاماً سيئاً والحمدُ لله أننا نجونا منه، إن كنت تقصد بالنجاة أننا لم نمت، فقد نجونا فعلاً! ولكني لا أفهم النجاة غير أن نجتاز الصراط إلى الجنة! ما عدا ذلك انتصارات فارغة!
يا صاحبي، ليس نصراً أن تعيش، ولا هزيمة أن تموت! الفكرة في كيف تعيش، وعلى أي شيء تموت!
لا أدري لماذا وأنا أكتبُ إليك الآن، خطر في بالي مصعب بن عمير يوم أُحد، مصعب فتى قريش الوسيم والثري والمدلل، ممدد على رمال الصحراء بانتظار أن يحفروا له قبراً، ثم إنهم لم يجدوا له كفناً ساتراً، كانوا إذا غطوا رأسه انكشفت رجلاه، وإذا غطوا رجليه انكشف رأسه! بحسابات الدنيا، تبدو ميتة كهذه مقارنة بحياة مرفهة سابقة، مجرد نهاية بائسة! ولكن الحقيقة أن ذلك اليوم كان أسعد أيام مصعب بن عمير!
إن كانت الحياة نجاةً فما أكثر الناجين، وإن كان الموت هزيمة، فكلنا سنُهزم نهاية المطاف يا صاحبي! ما يجب أن نحفل به هو كيف ستكون الليلة الأولى في القبر؟! روضة من رياض الجنة، أم حفرة من حفر النار!
تخيَّلْ معي بساطة الأمر وتعقيده على السواء! شهادة الدكتوراة التي تحملها لن تنفعك يومها، ما لم يكن قلبك قد حفظ جيداً، درس الصف الأول الابتدائي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟