حكمة الله أوفى من كل حكيم
رأيت كثيرًا من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار، وفيهم من قل إيمانه، فأخذ يعترض! وفيهم من خرج إلى الكفر، ورأى أن ما يجري كالعبث، وقال: ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد، والابتلاء ممن هو غني عن أذانا؟!
فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا: إن حضر عقلك وقلبك، حدثتك، وإن كنت تتكلم بمجرد واقعك، من غير نظر وإنصاف، فالحديث معك ضائع.
ويحك! أحضر عقلك! واسمع ما أقول: أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك أن يتصرف كيف يشاء؟! أليس قد ثبت أنه حكيم، والحكيم لا يعبث؟!
وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئًا، فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال: ما أدري، أحكيم هو أم لا؟! والسبب في قوله هذا؟ أنه رأى نقضًا بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق، وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى؛ فليس بحكيم. وجوابه -لو كان حاضرًا- أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة؟ أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك؟ وكيف يهب لك الذهن الكامل، ويفوته هو الكمال؟!
وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس، فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر، علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أو فى من كل حكيم؛ لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول. فهذا إذا تأمله المنصف، زال عنه الشك، وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: ٣٩] ، أي:أجعل لنفسه الناقصات، وأعطاكم الكاملين؟! فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا،ونقول: هذا فعل عالم حكيم، ولكن ما يبين لنا معناه.صيد الخاطر لابن الجوزي