مباراة أمستردام بروفة صغيرة على مستقبل أوروبا، وكل من يتخيل أن ما جرى لأهالينا، لن يرتد إلى دياره، فهو واهم..هناك ٤٣ ألف روح سيدفع الكل أكلافها، وهناك جيل جديد صاعد لن يتوقع أحد رد فعله، في أوروبا قبل غيرها..وقتها سوف يتحسر الكل على حركة جعلت معركتها داخل أراضيها فحسب ولم تمسس أحد خارجها بمكروه طيلة أربعة عقود..سيتذكرون ذلك جيدا عندما تصبح أراضيهم بنفسها أرض نزال ضروس..أما المغضوب عليهم دنيا وآخرة فسيغدو العالم كله بالنسبة لهم غزات مصغرة، وفي كل ركن سيأتيهم من يسلبهم أمنهم..هذا قدر سيدور، وكأس سيتجرعها الكل علقما.
والخدمات والإجراءت التجارية الحمائية ويكون العالم كله موضع ابتزاز أميركي، إما أن تفعل وإما سيف العقوبات الاقتصادية..يعتقد العربي أنه بعيد عن التداعيات ولا يعلم أنه أول المتأثرين لأنه مستهلك قياسي، بل مستهلك وفقير في معظم دوله.
ليس هذا فحسب..في هكذا حرب ‘‘تجارية معلنّة‘‘و ‘‘عسكرية مكتومة‘‘ بين الصين وأميركا..تتقلص قيمة الشرق الأوسط بأكمله..نحو تصفية نهائية أليمة حتى تتخلّص إدارة ترامب من إدارة أعبائه وتتفرّغ بجهدها الحربي والاقتصادي لمواجة بكّين..وهذه التصفية في وجهها الآخر لن تكون سوى على حساب السكان العرب المحليين الذين ينتظرون نهاية العالم فستكون نهاية عالمهم أنفسهم..وأولها..دعم شرس لكل الأنظمة الرجعية العربية لمحاولة فرض سيطرة بالحديد والنار على شعوبهم..
وإن كانت السيطرة السلطوية موجودة الآن بحد أدنى من المساءلة الدولية، فهذا الشرط الأخير سوف ينمحي، لصالح قمع مفتوح السقوف..ابتزاز أنظمة عربية قائمة بالتطبيع كشرط أولّي ووحيد لبقاء العلاقات على مستواها مع واشنطن، ولن تندهش إذا ما وجدت مكيًا في تل أبيب، وإسرائيليًا مقيم في الحجاز..وأخيرًا..سيكون مطلوبًا من شعوب المنطقة دفع جزء من الفواتير الاقتصادية الأميركية في الحرب الصينية، بمزيد من المشتروات العسكرية وكثير جدًا من الواردات من باب ‘‘ إما معنا أو ضدنا‘‘.
ماذا تريد أن تقول إيجازًا لما سبق؟..حرب تجارية مرتقبة مع الصين..سوف يدفع العربي أثمانها..من قوته ومن أحلامه في الديمقراطية..وحتى من صوته الباقي في دعم فلسطين.
لكن على صعيد آخر ربما تكون الحسنة الوحيدة لفوز ترامب هي انقسام التحالف عبر الأطلسي بين أميركا والاتحاد الأوروبي..في موضوع أوحد وهو الحرب الروسية-الأوكرانية..بين رؤية ترامب الراغبة في تسوية سياسية سريعة للحرب، ورؤية أوروبا التي ترى حربًا طويلة مع روسيا أمرًا ضروريًا لاستنزافها وعرقلة مشاريعها التوسعية..إذا ما قلّلت أميركا دعمها العسكري للأوكران وسمحت بصفقة تضم روسيا بموجبها إلى سيادتها الأقاليم الأربعة الأوكرانية لوجانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا..فإن ذلك سوف يعني في شقه الآخر انهيار تام في ثوابت العلاقات مع ألمانيا وفرنسا تحديدًا، مع ضربة قاصمة للمعسكرات اليسارية لصالح صعود خطاب قومي يميني متطرف يؤمن بفتح شلال التسلح للحماية في وجه الصعود الروسي، مع القضاء على البقية الباقية من مشروع التكامل الأوروبي على اعتباره فاقدًا لاهلية الدفاع عن أوروبا..وفي ظرف مماثل..تكسب روسيا معركة مزدوجة..تنال بالسياسة ما عجزت عنه بالحرب، وتضرب عدوها اللدود، أوروبا المتكاملة، في مقتل لا براء منه.
لكن حتى هذه الحسنة لن يستفيد منها العرب في شيء..صحيح سوف يهلّلون لانتصار روسيا، ويروجون لصعود المحور الصيني-الروسي..لكنه طرح فاقد للأهلية لأن المصلحة الروسية حينها ستقتضي لعب دور ‘‘مطفيء الحرائق‘‘ بين واشنطن وبكين، وليس ‘‘مشعل الصراع‘‘..وثانيًا لأن الدائرة ستدور على العرب بانتزاع سيادتهم على اقاليمهم بالحرب..الحرب الإسرائيلية..وتغيير حدود ما هو قائم بالفعل من دول تعتقد أن تحالفها مع إسرائيل يحميها..لأنه باتت هناك سنّة قائمة في العلاقات الدولية من بعد الحرب العالمية الثانية تقضي بالاعتراف بالحدود الجديدة المكتسبة بالسلاح..الأردن وهي الحلقة الأضعف والأكثر رخاوة ستكون في مهب الريح وليست وحدها أبدًا..بل ستعقبها دول عربية أخرى وليست السعودية بعيدة.
دعني أقول لك أمرًا محزنًا..قتلنا بعشرات الألوف ليس الخبر السيء..في أي رقعة في العالم كان ليصبح أمرًا مزلزلًا..لكن نحن عرب في النهاية ودمنا مستباح من بعضنا ومن الغريب..ثم دعني أخبرك بالأمر الأكثر حزنًا..أن ترامب سيمهد بشكل لا هوادة فيه الأوضاع الإقليمية لأحد أمرين..انبطاحنا المطلق أو إشعال النيران فينا بالكامل لصالح إسرائيل..وهذا الانبطاح يعني تطبيع لا شروط متكافئة فيه..وتلك النيران سوف تشتعل في قلب الدول إما عاجلًا إن رفضت، وإما آجلًا مع تضخم مظلمة الفلسطينيين والتي سوف تنتج أجيالًا شديدة العنف أول من تفكّر في الانتقام منه هو مجتمعاتها وحكوماتها..وسوف يأتي الأمر لا شك مهما طال الزمن.
أما الأمر الأكثر حزنًا من كل ما سبق..أن العرب فعليًا مفعول بهم..ينتظرون - بعدمية شديدة - دمار الكوكب..بدلًا من أن يساهموا بأي دور في تغييره لصالحهم..للصين جيش يحميها، ولروسيا إرادة قومية ناشبة ترتكز إليها..وللعرب..المتابعة ومصمصة الشفاه ودفع الجزية وانتظار القتل بالبارودة الأميركية..حاول السنوار لمرة أخيرة تحذيرهم واستنهاض هممهم للبحث عن موقعهم في الكون..ورضوا أن يكونوا ممسحة أحذية..وقسمًا حتى تلك المكانة..في سنوات ترامب الأربع القادمة..لن يبلغوها.
أولًا..ينسى العرب كثيرًا أن عملية ‘‘طوفان الأقصى‘‘ كانت مًصمّمة بالأساس لإيقاف مخرجات حكم ترامب..ترامب هو الذي غيّر المعادلة السياسية بالكامل في الشرق الأوسط عندما كسر أحد ثوابت السياسة الخارجية الأميركية واعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، مما قضى على أي إمكانية ‘‘صورية‘‘ لحل الدولتين تجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية..بعد التصفية من المركز جاء دور الإجهاز على القضية الفلسطينية من الأطراف، فكان أن قاد ترامب المهمة التبشيرية بالتطبيع بين إسرائيل وعددًا من الدول العربية وفي مقدمتها الإمارات والبحرين.
وكانت الخطوة التالية هي السعودية لا شك..ثم فجأة وجد الفلسطيني نفسه في خضم معادلة جديدة تسحق بقايا صوته بعد الإجهاز على وجوده العضوي في أرض فلسطين التاريخية، فكان لا بد من مراكمة الغضب لأقصى درجة ثم الضغط على زر واحد حتى ينفجر الشرق الأوسط، وإما حياة للكل بما فيها الفلسطينيين، وإما دمار للجيمع، وليس الدمار بخبر جديد على مسامع الفلسطيني، لكنه سيكون مؤذيًا جدًا لكل المتواطئين.
هذه الكارثة الإنسانية المهولة التي يحياها مليوني ونصف فلسطيني في قطاع غزّة بدأت من عهد ترامب..من محاولته وحلفائه في المنطقة تصفية القضية الفلسطينية والتصرف باعتبار ألا شعب عربي يقيم هناك أصلًا، أو أنه يٌُقيم لكن بصوت مخروس للأبد..فكان أن ردّ السنوار بالطوفان..الجمهوري والديمقراطي، الإنسان الأبيض في المؤسسات الحاكمة في بلاده، سوف يقتلنا، لا شك، مهما كانت أيدلوجيته..لكن الإشكالية تتجاوز ذلك..
بل تتعلّق بحجم التغييرات الهيكلية التي يجريها كل طرف في المنطقة..وترامب ملك التغيير..لا يحافظ على الأوضاع الراهنة رغم شدة تدهورها بالنسبة لنا، ومن ثم يعكف على إدارتها لصالح إسرائيل..لأ..بل يمسحنا من الخريطة السياسية اصلًا وهو حين يفعل ذلك فأنه يكون مدفوعًا بهلاوس دينية محضة تجعل الصراع المفروض علينا هو ‘‘استئصال ومحو‘‘ وليس ‘‘تعايش وتحجيم‘‘..معضلة ترامب هي جمهوره المسيحي الصهيوني في أميركا..وهي كلمة قد تبدو مُكرّرة في الأونة الأخيرة..لكنها بالفعل خطرًا داهمًا.
تيار المسيحية الصهيونية هو أكبر داعمي ترامب في الداخل، وأعداده تتجاوز خمسين مليونًا..هؤلاء يحملون رؤية شديدة الكراهية للمسلم ابتداءً وينطلقون منها..يعتقدون منذ وصولوهم للولايات المتحدة في القرن السابع عشر قادمين من هولندا وفرنسا وبريطانيا، أن خلاصهم الأبدي لن يكون إلا بإنشاء مملكة إسرائيل الموعودة..وعلى مدى ثلاث قرون نقلوا الحلم لعراك السياسة وأنشأوا جماعات ضغط شديدة السميّة مهمتها توجيه الرأي العام الأميركي لخدمة مصالح إسرائيل..هؤلاء هم جمهور ترامب العقائدي الوفي..ويصعب جدًا التفاوض مع أحدهم وهو يحمل رؤية لضرورة تصفيتك دينيًا..يصعب حتى انتزاع حقك في الوجود...بالمناسبة يعتقد البعض أن اللوبي الصهيوني و Aipac هم خُدام إسرائيل في أميركا..صحيح؟
لا..بل الأسوأ منهم تيارات الأصولية المسيحية..يكفي أن أخبرك أنه حينما شنّت إسرئيل هجومها على المفاعل النووي العراقي كان أول من اتصل به مناحم بيجن ليس الرئيس الأميركي بل القس ‘‘جيري فالويل‘‘ زعيم منظمة ‘‘الأغلبية الأخلاقية / Moral Majority وهي إحدى أكبر جماعات الضغط المسيحية الصهيونية، وبنفسه وفي غضون ساعة حرّك 80 ألف شخص لإمطار أعضاء الكونجرس برسائل ترهيبية للضغط عليهم للتأثير على موقفهم، وخضعوا..نفس الأمر مع القس بات روبرتسون في غزو لبنان 1982..لدرجة أن القس ذهب بنفسه وأنشأ إذاعة في المنطقة المسيطر عليها من قبل قوات سعد حداد وأنطوان لحد لتأييد إسرائيل..ولعيون هؤلاء سوف يدفع ترامب فواتيره الانتخابية لصالح ‘‘توسيع إسرائيل‘‘.
ما الذي تحاول أن تخبرنا به؟..ترامب أسوأ من هاريس التي قتلت 43 ألف فلسطيني؟..للأسف نعم..ترامب أصلًا صنع ذلك الوضع من البداية..وقياسًا على سلوكه السابق..سوف يمنح ترامب لإسرائيل - إن أرادت- شرعية ضم قطاع غزة، والاستيطان الموسّع في شماله، مع أمد غير منظور للحرب، بل وسوف يعوضها بمكاسب سياسية إضافية في دول أخرى وهو ما عبّر عنه نصًا بحتمية توسيع حدود إسرائيل..وما قد يفعله ترامب في أربع أعوام قد يحتاج أربع قرون لمحو آثاره.
ثانيًا..ينتظر الجمهور العربي الناقم نهاية الكون، أو الحرب الكبرى، أو معركة تسحق الكل، بحثًا عن إثارة مفترضة أو تحقيقًا لعدالة غائبة يلعب فيها بمفرده دور الضحية..فليكن الجميع إذن ضحايا..لكن هذا الدمار سيكون العرب أول دافعي أثمانه الباهظة..
في تخطيط ترامب الاستراتيجي سوف ينتقل مركز صراع الكون إلى منطقة واحدة وهي ‘‘بحر الصين الجنوبي والشرقي‘‘..هناك حيث تعتقد أميركا الجديدة أنه يجب حصار الصين بحريًا وتجاريًا لتأخير تقدمها كقوة إقليمية مهيمنة قرنًا أو إثنين..هذه المعركة التجارية الفاحشة التي سوف يشنها ترامب..ستجر العالم معها لدوامة من رفع أسعار السلع
Abdo Fayed pinned «الحلقة الجديدة من بودكاست ألف باب على. يوتيوب..لعيون البطل الشهيد يحيى السنوار..ساعة من الحديث عن الهند..ومحاولة للإجابة عن سؤال..لما تقتل الهند المسلمين في قطاع غزة؟..https://youtu.be/N1iYL4ooc_M?si=AWT9zIUcI05nC1jF»
الحلقة الجديدة من بودكاست ألف باب على. يوتيوب..لعيون البطل الشهيد يحيى السنوار..ساعة من الحديث عن الهند..ومحاولة للإجابة عن سؤال..لما تقتل الهند المسلمين في قطاع غزة؟..https://youtu.be/N1iYL4ooc_M?si=AWT9zIUcI05nC1jF
هل يُمكنك لوم الزعيم ‘‘باتريس لومومبا‘‘ على خياره برفض التبعية للغرب؟..كان يبحث فقط عن مصلحة بلاده..وهذا ما جناه..هو وشعبه..فقط لأنه قال ذات مرة للغرب ..لا...هل يُمكنك نعت ‘‘ توماس سانكارا‘‘ بالمجنون..فقط لأنه صنّع وأنتج وزرع، ورفض دفع ديون الغرب الاستعمارية؟..هل يمكنك تحميّلة مسئولية الفقر في بوركينا فاسو من بعده؟..لا..ألف مليون لا..لا يُمكن لوم الإنسان على كونه حرًا..لا يُمكن سحقه معنويًا لأنه اختار الحياة لشعبه ولنفسه بكرامة..لا يُمكن لوم الساعي على عدم وصوله..بل لوم المتقاعس الذي لولا صمته وسكوته وخيانته لأشقائه لما تجرأ الغرب على القيادات الوطنية ومشاريعها التحررّية..السنوار بدوره لم يكن مجنونًا..كان يحمل مشروع حريّة..لكن كغيره من قادة التحرر الوطني العظام على مرّ التاريخ..كان مصيره الشهادة بعد نزال ومصير أهله السحق من العالم.
ألم تفهم القصة بعد؟..أن للحرية ثمن باهظ؟..أن الطريق طويل ويحتاج للشجعان الذين يضحون أولًا ليفتحوا الطريق؟..ألم تُدرك إلى اللحظة حجم التكتلات العالمية التي بناها الغرب خلال 300 عام، وأن هذه الشبكات الزبائنية لن تسمح بميلاد مشروع تحرري؟..ألم تفهم أن ثمن الصمت والخضوع للغرب من التجارب السابقة وغيرها..كان الموت للشعوب..لكنه موت النعاج الذليلة، التي تساق للمجزر واحدًا تلو الآخر..وأن الغرب لا يعدكم سوى بالفقر..ألم تفهم وتعي أنك بإدعاء العقلانية وانتقاد المقاومة وقت معركة..أنك حينئذ لا تشبه سوى سياط الجنرالات الخونة ‘‘ سيسي سيكو موبوتو‘‘..و ‘‘بليز كومباوريه‘‘؟..ألم تفهم بعد أن باتريس لومومبا وتوماس سانكارا لو كانوا بيننا اليوم لنعتوهم أيضًا ب ‘‘المخربين‘‘..ألم تفهم أنك الهدف التالي لو صمتّ على جرائم الإسرائيليين..أنك ستذوق فقر الكونغو وسرقة مواردها..وبؤس بوركينا فاسو وضياع أحلامها؟
ألم تعلم حتى اللحظة..أن حريتك في مقاومتك..وأن العالم فسطاطين..سنوار وعباس..سانكارا وكومباوريه..لومومبا وموبوتو..حرية وغرب..السنوار سيخلده التاريخ لاحقًا كبطل حرية لا شك..مثله مثل لومومبا وسانكارا..لكن التاريخ حتى لن يذّكر من تخلوا عنه..فقط كخونة..استحقوا اللعنات من شعوبهم..هذا وعد.
بوتوجاز مقابل زراعتهم شجرة أمام المنزل، وأنشأ 300 خزان مائي..والنتيجة تصاعف خرافي للمنتجات الزراعية خلال 3 أعوام..القطن من 79 ألف طن متري إلي 180 ألف، والفول من 82 ألف إلي 146 ألف، والسمسم من 5000 إلي 40 ألف..وقال لشعبه..نحن سوف نستهلك ما ننتج فقط.
ثم أصدر قانونًا يمنع النخبة من استيراد أي منتجات غذائية غير التي يستهلكها العامة، بل حرم كل الوزراء من ركوب السيارات الفارهة، وبدلًا من ذلك يركبوا وسيلته المفضّلة ‘‘الدراجة‘‘، ولما يسافروا للخارج لحضور مؤتمرات يركبوا الدرجة الإقتصادية، وكانت حجّته بأن الطائرة لو سقطت، فلن تفرّق بين الدرجة الأولي والإقتصادية..ذات مرة حضر لقاء مع الطلبة فشاهد بعضهم يرتدي منتجات الجينز الأميركية، فأطلق مبادرته لصناعة رداء محلي يُدعي فاجو يلتزم بإرتدائه كل موظفي الحكومة من الغفير للوزير وهو نفسه..ولما كان يتنامى لمسامعه بأن الموظفين يخلعوا الزي في العمل، كان يذهب لعمل زيارات مفاجأة، فتعلّم الموظفين ارتداء الزي باستمرار، وعُرف الرداء بإسم ‘‘الرئيس في الطريق‘‘..من الذي لم يعجبه الوضع؟..طبعًا فرنسا..قطعت كل مساعداتها لفولتا العليا بداية من 1983 ومعها البنك الدولي.
هل خضع توماس؟..لا..كان في زيارة إلي كوبا ومنها إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لكن واشنطن رفضت السماح له بعبور أجوائها، فكان لزامًا أن يغير المسار إلي كندا ثم نيويورك، ولما وصل رفض البيت الأبيض استقباله، فذهب لزيارة الفقراء السود في هارلم، واحتفوا به، وقال في تصريح إعلامي ‘‘هارلم أفضل عندي من البيت الأبيض‘‘..لكن لا شيء يُقارن بما فعله مع الرئيس الفرنسي ميتران..المرة الأولي في القمة الفرنسية-الإفريقية عام 1985 وذكّر فرنسا بجرائمها الإستعمارية..أما الثانية والأكبر كانت عندما زار ميتران فولتا العليا والتقاه توماس، ووبخه علي استقباله رئيس نظام الفصل العنصري الجنوب إفريقي ‘‘بيتر بوتا‘‘ فنهض ميتران أمام الكاميرات وربت علي كتف الرئيس الشاب، وقال له أنت تتحدث بصراحة أكثر من اللازم، ثم أردف - باستعلاء شديد - أن توماس مجرد شاب صغير لا يعرف مقادير السياسة الدولية.
لكن الأمور ستصل لنقطة اللا عودة..في قمة منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا في 29 يوليو 1987..ألقى توماس خطابًا هو الأشهر والأكثر إيلامًا في تاريخ القارة..‘‘أنا هنا أمامكم، أرتدي ملابس من صنع أبناء بلادي، القطن من زراعة فلاحينا، والحياكة من أيدي سيداتنا..لست هنا للقيام بعرض أزياء..لأ..أنا هان لأخبركم بأننا قادرون على الإنتاج..هل تعرفون معنى الإمبريالية؟انظروا إلى أطباق الأكل أمامكم..الذرة مستوردة، القمح مستورد، هذا أفضل مثال..الأوروبيون يرغبون في أن نعتمد عليهم حتي في طعامنا، ومن لا ينتح غذائه، ستكون إرادته مسلوبة..لو أن هناك من يدين للآخر..فالأوربيون مدينيون لنا..للأفارقة..دماء الجنود الأفارقة روت أوروبا في حربها ضد النازية الهتلرية، لكن رغم ذلك كان الأوروبيون ممتنين جدًا للأمريكين ومساعدات مارشال، أما جنود المستعمرات فلا قيمة لهم..يُكمل توماس ليقول..
الأوربيون استعمرونا وسرقوا أرضنا ثم تحررنا فأرسلوا لنا مستعمرين جدد في هيئة خبراء تقنيين، أغرقوا أنظمة أفريقية بديون ثقيلة، فكانت الديون باب خلفي لعودة الإستعمار..دعونا نتحد ولا ندفع تلك الديون..القرأن والإنجيل يرفضان الإستغلال، ولو كانوا شرعوه، لوجدنا نسختين من القرآن والإنجيل..المقرض لن يموت إن لم ندفع، أما لو دفعنا، فنحن هالكون لا محالة..لو وقفت بمفردي رافضًا سداد الديون الإستعمارية، فتأكدوا أنني لن أكون موجودًا بينكم في القمة القادمة‘‘..وكأنه كان يري مصيره.
أرسلت فرنسا مبعوثها الإفريقي الأكثر انحطاطًا وشهرة ‘‘جاك فوكار‘‘ إلي ألد خصوم توماس، وأكبر عملاء فرنسا بين الحكام الأفارقة، الجار الإيفواري فيليكس هوافيه بوانيه، والأخير تولّي التنسيق مع صديق توماس المقرب ونائبه وحليفه ‘‘بليز كومباوريه‘‘ للإطاحة بتوماس..وعندما بلغت أنباء الإنقلاب مسامعه، رفض توماس تصديق الأمر، وقال أن كومباوريه أخيه ولا يمكن أن يخون الأخوة والصداقة..ولم تمض أيام حتي اقتحم كومباوريه القصر الرئاسي رفقة جنوده في 15 أكتوبر 1987، وقتل توماس، بعد ثلاثة أشهر من خطاب الديون، وقطع جثته ودفنه كالدواب، أقل حتي من الدواب..وبفضل الدعم الإيفواري المباشر والفرنسي في الخفاء، أصبح كومباوريه رئيسًا لفولتا العليا، وعادت الأمور مع فرنسا لمجاريها، وظلّ خادمًا للإليزيه حتي عام 2014 عندما أطاحت به ثورة شعبية بعد رغبته في تعديل الدستور فيما عُرف بثورة المكنسة..في تلك الثورة لم تحمل الجماهير سوي صورة شخص واحد فقط..أتذكّرها جيدًا في الدقيقة 3:42 من وثائقي DW تحت عنوان ‘‘ثورة حفاة الأقدام‘‘..كانت صورة الرئيس المغدور‘‘ توماس سانكارا‘‘..رئيس فولتا العليا..التي غيّر اسمها إلى ‘‘بوركينا فاسو‘‘ أي أرض الأحرار.
هل تعلم مقدار الثروة الطبيعية والمعدنية الموجودة في باطن أرض الكونغو؟..ما يُعادل 24 تريليون $..منجنيز ونحاس وذهب وماس وكوبالت وقصدير وحديد..كل شيء هناك..بكثرة فاحشة..إلى من عهد البلجيك ولأميركيون تلك الاحتياطات المهولة من أجل إداراتها؟..للجنرال القزم ‘‘سيسي سيكو موبوتو‘‘..وماذا فعل؟..سرق كل شيء..حوّل البلاد لخرابة..كان مهتمًا فقط بمزاجه الشخصي..أضاع مليارات الدولارات في إنشاء عاصمة جديدة اسمها ‘‘جبادوليت‘‘..كنائس وقصور عملاقة يجلس فيها بمفرده مع حاشيته ووزرائه لإرضاء جشعه..حفل زفاف ابنته على رجل أعمال بلجيكي تكلّف نصف مليار $..30 سنة من حكم القزم أتت على الأخضر واليابس..إلى أن قام الجنرال لوران كابيلا بانقلاب عليه عام 1997..ودخلت البلاد في حرب أهلية من 1997-2003 قُتل فيها..5.5 مليون شخص..نعم الرقم صحيح..خمسة ونصف مليون روح.
يا رجل كفاك..لا يُعقل أن يكون الغرب هكذا..ربما هي مرّة عابرة وفقط..لأ..دعني أقص عليك حكاية رجل آخر..لا بد أن أسردها حتى تكتمل الصورة..
القصة تبدأ من طفل كان لديه حلمًا واحدًا فقط..ركوب الدراجة..كان تلميذًا في مدرسة ابتدائية في مدينة تُدعى جاوا..بلاده كانت خاضعة للإستعمار الفرنسي، وطبعًا كان مدير المدرسة أوروبيًا أبيضًا..كيف يُحقق الطفل الإفريقي حلمه؟..علم بأن أبناء المدير يمتلكون دراجة..طلب منهم ركوبها..لكنهم رفضوا ثم أرادوا ‘‘كسر نفسه‘‘..فطلبوا منه أن يبني لهم قلعة رملية على مساحة 5 أمتار..وإن فعل، فسوف يحصل على تجربة الدراجة..فعل ما طلبوه، لكنهم رفضوا في النهاية وتضاحكوا علي سذاجته..ماذا يفعل؟..تسلّل لبيت المدير وحقّق حلمه وسرق الدراجة بنية ركوبها ثم إعادتها..لكن المدير عرف..طفل وأخطأ..يسامحه؟..لأ..طرده من المدرسة واستدعى الشرطة الاستعمارية الفرنسية التي اعتقلت والد الطفل وأمه وإخوته وجلدوهم أمام القرية..تخيّل طفلًا نشأ في تلك الظروف؟ ما الذي يُتوقع أن يحمله من مشاعر تجاه المستعمر الفرنسي؟
مرّت الأيام..وكبر الطفل ‘‘توماس‘‘ و التحق بمدرسة ثانوية ومنها إلي أكاديمية لاميزانا العسكرية، وفي عام 1973 تخرّج منها في عمر ال 24 ونال رتبة ملازم أول..ماذا كانت بلد الظابط توماس؟..كانت تُدعي ‘‘فولتا العليا‘‘ وخضعت لعقود للإستعمار الفرنسي، لكنها لم تكن بنفس أهمية مستعمرات أخري كبيرة مثل ساحل العاج..فكان الفرنسيين لا يكتفوا فقط بسرقة المنجنيز من فولتا العليا..بل يجبروا مواطنيها علي الذهاب للعمل بالسخرة في المزارع الإيفوارية..فكانت جريمة استعمارية مزدوجة..سرقة وتهجير..ولما نالت فولتا العليا استقلالها عام 1960، لم تتركها باريس لشأنها بالطبع..حكمتها من خلال مجموعة من العملاء العسكريين..7 انقلابات عسكرية شهدتها فولتا العليا بعد استقلالها..لكن توماس لم يشارك في الصراع المحلي علي السلطة لخدمة فرنسا.
اكتفى بدوره كظابط وعلّم جنوده العلوم الإجتماعية، وأخذهم في رحلات للقري لمساعدة المدنيين في الزراعة، وبدأت سيرته الجيدة تنتشر بين الجنود..فورًا..وضعته كل النخب العسكرية في اعتبارها كنجم جديد صاعد، وبالأخص رئيس البلاد ساي زيربو، الذي عرّض علي توماس وزارة الإعلام سنة 1981 وقبلها فورًا، وكانت أول مرة في تاريخ البلاد أن يشاهد المواطنون وزيرًا يذهب لعمله ب ‘‘الدراجة‘‘..كان عيب ‘‘الوزير توماس‘‘ قاتلًا..صراحته..لا يسكت على فساد ولا يخشى في الحق لومة لائم..انتقد الرئيس في الإذاعة، وفورًا تمت إقالته، ونفيه لوظيفة إدارية بعيدة..بعد سنة واحدة فقط سيزيح انقلاب عسكري جديد الرئيس ساي زيربو عن السلطة..ويأتي رجل آخر هو ‘‘جان بابتيست‘‘، والذي أتي بتوماس كرئيس للوزراء..أخيرًا ردّ إليه اعتباره..مرة أخرى لا تنسى عيب ‘‘ رئيس الوزراء توماس‘‘..صراحته.
بدأ رئيس الوزراء توماس في انتقاد فرنسا وسرقتها وتدخلها في بلاده..لم تقبل فرنسا بذلك..في 16 مايو 1983 أوفد الرئيس الفرنسي ميتران مبعوثه للشئون الإفريقية ‘‘جي بينيه‘‘ إلي عاصمة فولتا العليا..وفي فجر اليوم التالي كانت الآليات العسكرية تُحاصر منزل توماس، ويتم عزله من منصبه كرئيس للوزراء ويتم أسره في منطقة شمالي البلاد..سوء تقدير ستدفع فرنسا أثمانه..نزل المتظاهرن للشوارع، وانتفض العسكريون المؤيدون لرئيس الوزراء، وقطع عمال الاتصالات خطوط الهاتف، وذهب طلاب المدارس والجامعات لمنزل توماس..وحرّروه واقتادوه..إلى أين؟..لمقر رئاسة الجمهورية..كان الرئيس الموالي لفرنسا قد فرّ..وتم تنصيب توماس..توماس رئيسًا لجمهورية فولتا العليا.
كانت أوضاع فولتا العليا بعد 23 سنة من الإستقلال وحكم أعوان فرنسا مزرية..98% من الشعب يُعاني الأمية، ومعدّل الإلتحاق بالمدارس 16%، ومعدّل وفيات الأطفال 180 من كل 1000، ومتوسط العمر 40 سنة، ودخل الفرد سنويًا 100$..فولتا العليا التي استلم توماس قيادتها كانت ثالث أفقر دولة علي وجه الأرض..لكنه شمّر ساعده وبدأ العمل..أطلق حملة لزراعة 10 مليون شجرة لمكافحة التصحر، وكان يُهدي أي زوجين جدد
هل كان السنوار رجلًا مجنونًا بحق؟..وهل أخطأ في شن طوفان الأقصى؟..وهل نندم الآن على السابع من أكتوبر بعد 45 ألف شهيد، و130 ألف جريح ومفقود؟..هذا منشور طويل جدًا..ربما أطول ما سوف تقرأه في حياتك على منصة إكس.
من أين نبدأ؟..من السعودية..ليست تلك التي نعرفها..بل السعودية الإفريقية..وما هي؟..أحكي لك..نهاية القرن التاسع عشر أرسل ملك بلجيكا ليوبولد الثاني مستكشفًا بريطانيًا، ويُدعى السير هنري مورتون ستانلي إلى أدغال إفريقيا..المطلوب؟..اكتشاف أرض جديدة يتخذها ملك بجيكا له ضيعّة..تنقّل ستانلي لسنوات إلى أن وطأت قدمه أرضًا بكرًا..أنهار وغابات..مناجم ومعادن..هي الفردوس الأرض المنشود..قام بتحديد الأرض وذهب في اليوم التالي للملك ليوبولد وأهداها له..كانت مساحة تلك الجنّة الإفريقية تبلغ 88 ضعف حجم بلجيكا نفسها..أطلق الملك ليوبولد على مستعمرته اسمًا جديدًا..الكونغو.
ثم بدأت واحدة من أحط الحقب في تاريخ البشرية..كان ملك بلجيكا معروفًا ببذاءته، احتار الناس في شخصه، معطاء وينفق بسخاء على محيطه، لكنه يعود ليشتري بأمواله كرامتهم، يخلعونها كأحذيتهم على باب قصره، وإن واتتهم الجرأة على انتقاده، أذاقهم الأمرين..هكذا كان يتعامل مع الحاشية القريبة والأمراء..ما بالك بالأفارقة؟..اتخذ ليوبلود الكونغو ملكًا شخصيًا ولم يقبل بالتنازل عنها لدولته بلجيكا..بدأت صناعة السيارات والمركبات في بدايات القرن العشرين في الرواج نسبيًا..والمطلوب..مطاط لصناعة الكاوتش..وكانت الكونغو المصدر الرئيس لزراعته وتوريده..كم كان المزارع الكونغولي يتقاضى نظير الزراعة؟..لا شيء حرفيًا..يعمل كالعبد سخرةً دون مقابل.
انتفض العمال..رفضوا الذهاب للمزارع..فأطلق الملك البلجيكي حملةّ لتأديبهم..بدأ الرعب..يأتون بالمزارع..يقطعون يدًا ورجلًا من خلاف، ثم يصلبونه على الشجر..في اليوم الأول..صُلب 100 ألف كونجولي..تأمل فيما يدور اليوم وستعرف ما الذي يتكلفه أسر وقطع وصلب 100 ألف إنسان..يستلزم جنودًا ووحشية..وكلاهما توافر للملك ليوبولد..يتذمّر الكثيرون من الاستعمار الفرنسي..حقيقة..استعمار قبيح..لكن الأقبح في التاريخ كان الاستعمار البلجيكي..كان الفرنسيون يؤمنون بضرورة سحق السكان الأصليين وتعليمهم الفرنسية لغة وعادات وتقاليد، حتى يصيروا فرنسيين في كل شيء عدا لون بشرتهم.
أما البلجيك فرفضوا تمامًا التقارب الثقافي..يتعلم السكان الفرنسية ربما، الفلامنكية ربما..من أجل سهولة التواصل فحسب..لكن من غير المسموح لهم السير في نفس شوارع البيض، أو الذهاب لمدارسهم أو ركوب بغالهم..أو حتى التعليم في مدارسهم..التعليم كفكرة أصلًا مرفوضة للأفارقة..حتى يسهل التحكم بهم..تخيّل حينما نالت الكونغو استقلالها في 30 يونيو 1960..كم كان عدد ضحايا الاستعمار البلجيكي؟..10 ملايين كونغولي..كم كان عدد خريجي الجامعة في دولة تبلغ مساحتها 2.3 مليون كم؟..ضع رقمًا..100 ألف؟..50 ألف؟..10 آلاف؟..لا..16 شخصًا فقط..نعم 16..هذا ما فعله البلحيك بالكونغو..وهذا ما لم يقبله أول رئيس وزراء مدني منتخب في تاريخ الكونغو وإفريقيا..وهو السيد ‘‘باتريس لومومبا‘‘.
وقف يوم الاستقلال في برلمان بلاده..أمامه ملك بجليكا ‘‘بودوين‘‘ وحشد من الرجال البيض الذين ظنّوا أنهم جاءوا لينعموا عليه بحريّة بلاده، بينما يكتفي هو بتقبيل الأيادي البيضاء شكرًا وامتنانًا..لم يحدث..وقف لومومبا أمام ملك بلجيكا يشيد بالشاب الكونغولي الذي سرق سيف ملك بلجيكا أثناء تجواله بالسيارة في قلب العاصمة الكونغولية كينشاسا..وقف يُعدّد جرائم الاستعمار ويُحمّل البلجيك جرائم السرقة والنهب والموت الذي أذاقوه لشعبه..وقف فقط بكرامة يقول ‘‘لا‘‘..للتحالفات الغربية..ويتعهد بالخروج عنها والسير نحو تحقيق مصلحة بلاده وفقط..ورآها مع الاتحاد السوفياتي..هل غفروا له محاولة الاستقلال؟..سامحوه على اختيار طريق التنمية لبلاده بعيدًا عن الغرب؟..كانت جريمة مروّعة.
عام 1961..دعم البلجيك ورجال الاستخبارات الأميركية جنرالًا قزمًا يُدعى ‘‘سيسي سيكو موبوتو‘‘، قام بالتعاون مع أحد جنرالاته واسمه ‘‘تشومبي‘‘ بالسيطرة على أهم منطقة غنيّة بالمعادن في الكونغو وهي ‘‘إقليم كاتانجا‘‘..فصلوا جزء من البلد عقابًا للحرّ ‘‘لومومبا‘‘..اعترض الرجل..هذه بلادي وأدافع عنها..بدأ يستدعي الجيش..ما تبقّى منه بالأدق..فكان العقاب الوحشي..دخل الجنرال المنشق تشومبي للقصر الرئاسي..اختطف لومومبا أمام أعين الجميع، ما تزال صورة لومومبا مأسورًا متاحة على جوجل، مؤلمة لكل شريف وحّر..المهم..إلى مكان سري اقتادوه، وهناك استجوبوه..وصدر الحكم..طلقة في الرأس..ثم تقطيع جسده، وإذابته في الحامض..حتى لا يتبّقى منه أثر..وهو ما كان..في ال 17 من يناير 1961 اختفى لومومبا للأبد..لكن عام 2000 سيخرج علينا جندي بلجيكي اسمه ‘‘جيرار زفيته‘‘..وهو يحمل في علبة زجاجية جزءً من دماغ وأسنان لومومبا..ويتفاخر علنًا بأنه من أذاب جثته.
تقوم الدول بتمجيد أبطالها في معركة حربية يتوافر لهم فيها غطاء نيراني كثيف من الدبابات والطائرات والدفاعات الجوية..أنتج السوفييت مئات الأفلام عن استبسال الجنود في ستالينجراد، وهو حقيقي لاشك، لكن من خلفهم كان ملايين الرجال يعملون في مصانع إنتاج الذخائر في موسكو وملايين النسوة يقدمون الطبابة..الأميريكون بارعون في بروزّة الفشل حتى، وتحويله لصورة نصر لجندي أميركي لا يُقهر، ويجلس العرب أمام الشاشات لهذا أو ذاك مصفقون ومنبهرون..وحين أتاهم القسّامي..الرجل الذي حوّل أبسط الإمكانات لسلاح فتّاك يغزو به أرضه المسروقة، ويثخن في العدو، تجاهلوه بل ولاموه على ‘‘سوء صنيعه‘‘..سنة كاملة بلا ماء أو غذاء أو دواء، محاصر فوق الأرض ومن أسفلها، مراقبًا من الفضاء ومقصوفًا من الجو، ويصمد القساّمي متنقلًا من نفق لنفق، ومن حطام لأطلال، ليقنص رقاب العدو، ويسحق ميركافاته، مرتديًا خف بالِ أو ملتحفًا سترة ممزقة..جلس العرب يبحثون عن صورة البطل، بين شاشات السينما، ويحتفلون بأبطال الآخرين الذين سحقوهم..بينما تجري أمام أعينهم ملحمة حقيقية في الكرامة والصمود، ولا مجيب..وياليتهم حتى اكتفوا بالمشاهدة، بل أمعنوا في الخنق والتضييق، وكانوا لإخوتهم وبالًا أسوأ من عدوهم..وسيمر الوقت ويعلم المرجفون والمتخاذلون..أنهم أضاعوا خطّا أماميًا، وسدًا منيعًا، كان بمقدوره استنزاف الإسرائيليين بأقل الإمكانات، وشغلهم عن رقاب باقي العرب..وحينها..حين يستفرد بهم الإسرائيلي واحدًا تلو الآخر..سيعلمون أي فتى قساّمي أضاعوا..ليوم كريهة وسداد ثغر.
يُهجّر من أرضه في نكبة 1948، ويعتقد العالم أنه أصبح قضية منسيّة، فينشيء حركة فتح التي أشبعت الإسرائيليين خطفًا للطائرات واقتحامًا للحدود واستهدافًا للجنود..تُطبّع ‘‘فتح‘‘ وتبيع القضية وتقبل المذلّة في مدريد أوسلو، فيسوق الله المقاومة الإسلامية في ثوب حماس والجهاد، فتنقل العمل الفدائي من الحدود للداخل المحتّل، باصات وشاحانات تنفجر، فدائيين يضحوا بأرواحهم في تجمعات الجنود وثكناتهم..جدار عازل يا فلسطيني حتى لا تعبر لحدودنا؟..
إذن فلتكن الصواريخ، صاروخ بدائي مداه 3 كيلو أضحى مرمى لهيبه 150 كيلو في 15 عامًا من حكم حماس..قبة حديدية إذن؟..فلتصنع حماس طائرات مسيرة وشراعية، تقتحم الغلاف وتحقق أكبر انتصار في تاريخ العرب في آخر نصف قرن..إبادة وتدمير وتهجير في غزّة؟..فليحوّل المقاوم القسّامي حطام البيوت وأطلال المساكن لأفخاخ قاتلة لميركافات العدو..غزة مستباحة وأيدي العدو باطشة على المدنيين العزّل؟..فليظهر من قلب الداخل المحتل بطلًا يدهس خمسين خنزيرًا ويمزقهم تحت عجلات شاحنته..ويرد الصاع ألف صاع.
تموت حركة فتظهر الأخرى، يستشهد قائد فيغرس الله دعوته في ألف..برصاصة وهاون، بمسيرة وصاروخ، وحتى لو بعصا في وجه مسيرّة..يقاوم الفلسطيني حتى نفسه الأخير، ويخلفُه من يأخذ ثأره ويبقى جذوة القضية مشتعلة في الصدور..ثم يحدثني أحدهم عن الاستسلام، عن الفلسطيني الذي يخافون أن تتحول سيرته لما يشبه ‘‘الهنود الحُمر‘‘..والله ثم والله..ليس في سيرة الشعوب من يُشبه الفلسطيني..تمسكًا بأرضه، وحفظًا لشرفه، ودفاعًا عن مقدساته، وصونًا لعقيدته..ليس في سيرة الأمم، أمّة مزعوا أبناءها بين الأقطار، وفرقوا دمائها على رؤوس النواصي والأشهاد، وظنوا أنهم لصوتها مخرسون، وعلى سحقها إذ هم بكل حشودهم العسكرية مقبلون..ثم يُخرج الفلسطيني لسانه هازئًا للعالم..مرددًا جملة واحدة..لأبد الدهر هنا باقون.
والله ما حصل في التاريخ إن كيان مجرم معاه سلاح نووي، وترسانة من أسلحة غربية..مسك 300 ألف إنسان ونازل فيهم دبح على الهواء مباشرة عشان يهجرهم من مكان للتاني بعد ما قتل 40 ألف روح..والله ما يحدث في ‘‘شمال غزة‘‘ فاق كل ما ورد في كتب التاريخ عن المجازر، ودروس الجغرافيا عن مصادرة الأرض بعد حرقها بأهلها أحياء..وقسمًا بالله تاريخ العالم بكل ما فيه من بشاعات لم يشهد بشر ًا منحطين مثل بشر اليوم من أقصى الأرض لأدناها وأولهم العرب اللي شايفين مليوني إنسان بيتقطع من لحمهم الحي سنة كاملة ولا حس ولا خبر..ف معلون أبو العالم ونفاقه وخسته..العالم الذي اتفق كله بلا استثناء على أن يصبح الفلسطيني صفحة مطوية من التاريخ نقرأ عنها تحت بند شعوب بائدة.
الهجوم الإسرائيلي على إيران..دليل قاطع على القوة العسكرية الإيرانية وليس العكس..
الطموح الإسرائيلي في المعركة مع إيران كان يدور حول نقطة واحدة فقط وهي..استئصال البرنامج النووي الإيراني..خلال العقد الأخير سعى نتنياهو لإقناع إدارات أوباما وترامب وبايدن بالحصول على تفويض لتدمير المنشآت النووية الإيرانية ولم ينل سوى ترخيص بسيط بشن عمليات تدميرية لا تحمل بصمة عسكرية عنيفة من وزن زرع فيروسات في أجهزة حاسوب المنشآت النووية الإيرانية في نطنز، أو تنفيذ عمليات اغتيال لعلماء نوويين إيرانيين مثل محسن فخر زاده..لكن ضربة عسكرية شاملة..أبدًا.
وهذه المرة تحديدًا كانت فرصة ذهبية لإسرائيل لتحقيق هدفها الأهم وهو سحق القوة النووية الإيرانية، وهذا الأمر يعني في وجهه الآخر، إفناء قدرة إيران على دعم محور المقاومة، وتحقيق الأمان الإسرائيلي في دول الطوق، والأهم تأسيس شرق أوسط جديد، لا يكون فيه ثمة صوت للبندقية بل تطبيع إسرائيلي-خليجي يقود المنطقة لعقود طويلة قادمة..لكن إسرائيل التي لا تصمت دقيقة على ما تراه حقها في الرد..ابتلعت جبرًا الإهانة الإيرانية بقصف تل أبيب ومنشآتها العسكرية لمدة شهر كامل..خاضت خلاله مفاوضات شاقة مع واشنطن لتحديد بنك الأهداف الإيرانية المطلوبة لحفظ ماء وجه إسرائيل.
وفي النهاية كان التفويض الأميركي مقتصرًا فقط على بضع منشآت عسكرية من قبيل مصانع إنتاج صواريخ وخلافه..مع تجنب الأهم..المنشآت النووية وكذلك منشآت الطاقة..أي إن إيران خرجت من الهجوم محتفظة بكامل استثمارها الاستراتيجي الذي بنته في العشرين سنة الأخيرة..حلمها النووي..بل وآبار بترولها التي سوف تعيد من خلالها تمويل نهضتها بعد تخفيف أو رفع العقوبات..إسرائيل التي لا تلتزم بسقف للاشتباك وترد على مقتل جندي بتدمير دولة..وجدت نفسها لأول مرة تقبل تدمير قاعدة نيفاتيم مثلًا..تقبل هلع 6 ملايين شخص..تقبل وحينما ترد..تستهدف منشآت عسكرية فقط.
لو كانت أميركا ترى في إيران قوة هامشية..لكانت سمحت لإسرائيل بما يفوق ذلك أضعاف..لكنها تعلم أن طهران قد راكمت قوة تجعلها قادرة على تحويل الشرق الأوسط لجحيم مطلق لكل قاطنيه ومستعمريه..تدمير خطوط نقل النفط في الخليج العربي والمحيط الهندي ومضيق هرمز..تقويض ثلث التجارة العالمية..استهداف واسع للأنظمة الخليجية المتعاونة مع إسرائيل..وفوق ذلك استهداف إسرائيل بكل أهدافها العسكرية والمدنية..هذه القوة الإيرانية التراكمية هي تحديدًا ما منعت الاقتراب من مشروعها النووي..والاكتفاء بضربة تجميلية للإهانة الإسرائيلية.
المعركة كانت توشك على الإفلات لصالح إسرائيل..اغتيال قادة المقاومة في غزة ولبنان وإيران..اختراق معلوماتي هائل على الجبهات الثلاث للمقاومة..مع صعود خطاب إسرائيلي بحتمية تغيير المعادلة السياسية في الشرق الأوسط..لكن إيران أعادت معادلة الردع بعد أن أيقنت أن استمرار الأمور بتلك الطريقة سيقود لتدميرها هي نفسها..فصعدّت ردّ فعلها سواء بضربتها العسكرية أو رمّ صفوف حزب الله الذي استعاد عافيته في الميدان ووجّه رسالة أخرى بمحاولة اغتيال نتنياهو في عقر داره في قيساريا..وإذا كان الحزب حليف إيران يستطيع ذلك، فإيران بقوتها الصاروخية تقدر على أضعافه.
إيران تنجح للمرة الثانية في بيئة إقليمية ودولية شديدة العدائية في الحفاظ على حلمها التاريخي..لكن هل يعني ذلك أن الأمر قد انتهى؟..لا..طالما بقيت إيران بمشروعها، وإسرائيل بطموحها..فإن الصدام قادم لا محال..اليوم أو غد أو بعد ألف غد..والسبيل الوحيد لإيقاف الحرب الشاملة هو استمرار إيران في دعم المقاومة..تحويل الحدود الإسرائيلية لخط نار ملتهب يستنزف قدرات الكيان وحلفائه بدلًا من الانشغال بإيران..إيران التي أدركت ما عجز العرب عن فهمه..
أن تأمين حدودك يبدأ من خارجها بألوف الأميال..العرب الذين أيضًا يعجزون عن الفهم..خصوصًا عرب شبه الجزيرة والخليج أن دعمهم الجنوني لحرب إيرانية-إسرائيلية..سوف يقودهم أنفسهم لدمار ذاتي..لأنهم في معادلة الصراع..بنك أهداف..وليسوا حلفاء أو شركاء أو أنداد أو فاعلين بأي شيء يتجاوز دورهم المذموم تاريخيًا بكونهم ‘‘ماكينة صرف‘‘ للحروب..يمولونها ويدفعون غاليًا أثمانها..خلاصة الضربة العسكرية الإسرائيلية على إيران هي التالي..إيران تصمد، إسرائيل ترتدع، واشنطن تتعقل، الخليج كرة تتراكلها أقدام السابقين.
استسلمت منظمة التحرير وخرجت من بيروت..فليعمّ الأمن الأميركي والسلام الإسرائيلي إذن..بالطبع..سيرى الفلسطينيون بأم أعينهم معنى الرفاه والرخاء الإسرائيلي بعد استسلام المقاومة..بعد 16 يوم فقط من خروج عرفات إلى تونس..وتحديدًا بتاريخ 16 سبتمبر 1982..اتفق وزير الدفاع الإسرائيلي أرئيل شارون، ورئيس أركانه رافائيل إيتان مع قادة ميلشيا القوات المارونية اللبنانية وبالأخص إيلي حبيقة ومارون مشعلاني على سحق المدنيين الفلسطينيين في صابرا وشاتيلا..أضاءات قوات شارون سماء المخيم بالقنابل الفسفورية، وتقدّمت الميلشيات المسيحية صوب المخيمات وقتلت في 3 ساعات أكثر من 3000 مدني فلسطيني، بأبشع الطرق، بقر البطون وقطع الأثداء.
لعلك الآن تُدرك لماذا لا تستسلم حماس..حافظ الأسد صدّق الإسرائيليين في سهل البقاع وسحقوه..ياسر عرفات انسحب من بيروت وقتلوا 3 آلاف فلسطيني..لكن مهلًا..ما تزال هناك أسباب أخرى..القادة الفلسطينيون أنفسهم لم ينجوا لاحقًا..هل تعلم أن الطيران الإسرائيلي قصف تونس؟..كان ذلك في صباح الأول من أكتوبر من العام 1985..وتحديدًا مدينة حمّام الشطّ على بعد 50 كم من العاصمة التونسية..سلسلة غارات متتالية على مقرات منظمة التحرير والهدف اغتيال عرفات..لكن عرفات نجا وقُتل 50 فلسطيني و 15 تونسي..العهد الأميركي لعرفات كان ضمان سلامته الشخصية..وهذا ما جناه..محاولة اغتيال..صحيح فشل الإسرائيليون في اغتيال عرفات..لكنهم بالتأكيد سينجحوا في تونس..بدل المرة إثنتين.
الأولى في 16 إبريل 1988..يومها ذهبت قوة إسرائيلية إلى الشواطيء التونسية..كانت تضم 16 من صفوة ضباط الشاباك والموساد والشين بيت وسيريت ميتكال ويتقدمهم إيهود باراك..نزل منهم 8 لبيت خليل الوزير..وأردوه أمام ناظري زوجته ب 76 رصاصة..وبعد 3 سنوات وتحديدًا 14 يناير 1991..سيقوم أحد أكثر الشخصيات الفلسطينية المشبوهة - والذي يُعتقد بعمالته للموساد في كثير من الدوائر - وهو صبري البنا المُكنّى بأبي نضال، بتجنيد أحد أعضاء فريق تأمين القيادي الفتحاوي هايل عبد الحميد الشهير ب أبي الهول‘‘..وكان العميل الخائن هو حمزة أبو زيد..دخل أبو زيد غرفة يجتمع فيها صلاح خلف ( الرجل رقم 2 في حركة فتح) وفخري العمري وأبو الهول..وأرداهم جميعًا بالرصاص.
هذا هو ثمن الاستسلام..تصفية ألوف المدنيين واغتيال قادة المقاومة..هذا هو ثمن الثقة بالإسرائيليين..سهل البقاع..هذا هو عين ما ترفضه حماس..لكن ليس لهذه الأسباب فقط..وإنما يتبقى سبب أكبر..وهو أن الخبرة في التعامل مع الإسرائيليين من معركة حصار بيروت وتبعاتها تقول بأن الاستسلام والتشريد في المنافي كان بوابة كل الرذائ، لأنه فتح الباب أمام قبول حركة فتح بالتطبيع مع إسرائيل..لأن فتح حُيّدت تمامًا من جبهة الطوق، ولم يعد لها تأثير عسكري، فباعت كل شيء لأجل السلطة الوهمية..فكان أن حضرت مؤتمر مدريد ثم وقّعت اتفاق أوسلو الذي قضى على القضية الفلسطينية وحولّها من حلم تحرير الأرض، للقبول بسلطة فلسطينية عميلة للاحتلال الإسرائيلي تقوم - بالوكالة عنه- بمهام قتل واعتقال المقاومين داخل الأراضي الفلسطينية مقابل مساعدات أميركية.
هل تعلم الآن لماذا لا تستسلم حماس؟...لأنها ترى المستقبل بعين التاريخ..ترى تطهير عرقي سيبدأ على نحو لم يسبق له مثيل..ترى موجات تهجير إجبارية لأهالي القطاع..ترى سلطة عميلة للاحتلال تنتقم من ألوف العوائل الفلسطينية بحجة دعم المقاومة..والأهم..ترى أرضًا فلسطينية أُخرست فيها صوت البندقية للأبد..وحلّ محلها تطبيع، يعيش فيه الفلسطينيون عبيدًا ما تبقّى من أعمارهم للإسرائيليين..هل تعلم الآن لماذا لا تستسلم حماس..وهل تعلم أن الإسرائيلي لا يؤمن وعده والأميركي لا يُضمن عهده؟..هل تعلم أن المُلام الوحيد هو الصهاينة، وأن من عليه إيقاف الحرب هم الصهاينة..وحدهم لا غير..هل تعلم..هل تتعلّم؟!
كفى خراب يا حماس..لماذا لا تقبل الحركة بإلقاء السلاح؟..ولماذا لا يذهب قادتها للمنافي الاختيارية؟..حتى يتجنب المدنيون في غزّة ويلات الدمار..لماذا لا تستسلم حماس؟..سوف أجيبك..
ارجع فقط بالتاريخ لحدود يوم 6 يونيو 1982..في الساعة العاشرة صباحًا وقف أحد الضباط الكبار في بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان بين جنوده، وكان اسمه تيمور جوكسل..كان يعتقد أن اليوم روتيني كغيره..ثم فجأة..وجد أمامه عشرات الدبابات الاسرائيلية تتقدم في بطء..استوقفها..مهمته تقتضي منعها من التقدم..وضع العراقيل المعدنية..تعطلت دبابة ثم إثنتين ثم عشرة..ثم نفذت منه أدوات الإعاقة..فسأل أحد الجنود الإسرائيليين..ما الذي تفعلونه؟..هذا خطأ..كانت التعليمات الواردة للجندي الإسرائيلي أن يتصرّف بأدب مع البعثة الأممية..فأجاب..سيدي..هذا غزو.
بعد ساعتين وقف تيمور جوكسل مع الظباط الفرنسيين في البعثة..فوجدوا في الأفق 1200 دبابة إسرائيلية..صعقوا وقرّروا السماح للإسرائيليين بالتقدم..يومها قال الظابط الفرنسي..لا نمتلك حتى في الجيش الفرنسي نصف الدبابات التي عبرت اليوم..كان ذلك إيذانًا ببدء الغزو الإسرائيلي للبنان..كانت إسرائيل تُعد العدّة لهكذا غزو..عملية اغتيال مشبوهة لدبلوماسي إسرائيلي في لندن واسمه شلومو أرجوف، وجدت فيها تل أبيب المُبرّر لعملية الغزو..اتهمت إسرائيل حركة فتح بتدبير الاغتيال، وأنه لا بد من غزو لبنان لطرد الفصائل الفلسطينية المقاتلة، وتطهير دول الطوق من أية أعمال عسكرية ضد الإسرائليين.
هل تشاهد حصار غزّة الآن؟..سبق وجربّت إسرائيل نسخة مروّعة منه في بيروت..بيروت الغربية تحديدًا..قصفت إسرائيل العاصمة اللبنانية قصفًا مروعًا لم يسبق أن شاهده العرب..قطعت المياه والكهرباء ومنعت دخول الدواء والغذاء..كانت إسرائيل تبحث عن ياسر عرفات تحديدًا، ومن بعده صلاح خلف ( أبو إياد ) وخليل الوزير ( أبو جهاد) وكلاهما مسئول لعقود طويلة عن الأمن والتدريب والمخابرات في حركة فتح..كان عرفات يهرب من منزل لمنزل..ويسانده في ذلك فصائل لبنانية تحالفت مع الفلسطينيين وخصوصًا الحزب الشيوعي اللبناني، وحركة أمل، والدروز بقيادة وليد جنبلاط..بدأت الوساطة الأميركية..خروج عرفات ورجاله من بيروت مقابل وقف الحصار وانسحاب إسرائيلي من بيروت..صفقة تبدو عادلة للوهلة الأولى..لكن أتدري لماذ رفض الفلسطينيون في البداية الانسحاب؟!..
هذا سوف يقودنا لأسوأ هزيمة جويّة تعرّض لها جيش عربي بعد حرب 1967..وكانت من نصيب سوريا الأسد..قبل قيام إسرائيل بغزو لبنان..كانت تعلم جيدًا أن القوات السورية موجودة لتأمين الخط الواصل بين دمشق وبيروت وتتمركز بأعداد كبيرة في منطقة سهل البقاع اللبنانية..كان ذلك جزء من الترضية الأميركية للأسد بعد حرب 1973..أن يُسمح للسوريين بنفوذ عسكري في لبنان، مقابل التخلي عن حلم تحرير الجولان..وكانت إسرائيل لا ترغب في استفزاز الوجود العسكري السوري في لبنان حتى تتقدّم قواتها بسهولة...ثم كانت الكارثة.
وقف مناحم بيجن أمام الكنيست الإسرائيلي يُعلن أن سوريا ليست مستهدفة في لبنان..وذهب المبعوث الأميركي فيليب حبيب لدمشق والتقى حافظ الأسد شخصيًا وأخبره أن إسرائيل لن تمسّ القوات العسكرية السورية في سهل البقاع..واطمأن حافظ الأسد وابتلع الطعم..لكن في ال 9 من يونيو 1982..باغتت إسرائيل الجيش السوري في سهل البقاع بهجوم كاسح..وفي ساعتين زمن فقط..دمّرت الفانتوم الإسرائيلية 90 طائرة مقاتلة سورية وقتلت ما يزيد عن ألف جندي فيما سوف يعرف بمعركة ‘‘سهل البقاع‘‘..مجزرة للطائرات لم يتسامح معها السوفييت لاحقًا عندما أرسلوا وزير دفاعهم للقاء وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس للاستفسار عن سبب الفشل السوري الساحق في استخدام السلاح السوفياتي..وكانت أزمة قصيرة في العلاقات إلى أن عهدت موسكو لألمانيا الشرقية بإعادة بناء القوة الجوية السورية.
كانت سمعة الوساطة الأميركية بعد سهل البقاع في الحضيض..وعلم الفلسطينيون أن الاستسلام بالشروط الأميركية يعني سحقًا كاملًا..وبالتالي استمرت المقاومة..لمدة تزيد عن ال 70 يوم صمد عرفات ورجاله..لكن حلفاء عرفات وبعد سقوط أكثر من 18 ألف قتيل مدني في بيروت..لم يعودوا يحتملوا الأمر..حركة أمل انسحبت لتأمين الضاحية الجنوبية، بينما نصح وليد جنبلاط عرفات -برفق- أن يُنهي المعركة وينسحب من لبنان..ولم يعد باستطاعة الشيوعيين الصمود أكثر من ذلك رغم استبسالهم في الدفاع عن عرفات..فكان أن قبل عرفات بالصفقة..خروج من بيروت صوب تونس رفقة ألفي مقاتل فلسطيني بسلاح خفيف..ولأول مرّة أصبحت دول الطوق بكاملها آمنة لإسرائيل..مصر التطبيع، الأردن بعد طرد منظمة التحرير عام 1970، لبنان، بطرد منظمة التحرير، ثم سوريا التي لم تطلق رصاصة على إسرائيل ولا توجد بها قواعد قتالية متقدمة للفصائل الفلسطينية.
حدث تاريخي..أول مرة في تاريخ العرب أن يحاول أحد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي..
حزب الله أرسل ست مسيرات، تجاوزت الحدود اللبنانية، خمس منها أسقطتها الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بينما تمكنت واحدة من العبور لمسافة سبعين كم وصولا إلى قيساريا، وأصابت مقر الإقامة الشخصي لنتنياهو وفقا لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
طبعا الإعلام الحربي الإسرائيلي فرض حظر نشر على السؤال الصعب..أين كان يوجد نتنياهو وقت الهجوم؟..لأن معنى وجوده داخل مقر الإقامة وقت تنفيذ الهجوم يحمل إهانة مروعة وفشل استخباراتي هائل لأن العنوان الصحافي الوحيد المقبول وقتها هو " نجاة رئيس وزراء إسرائيل من محاولة اغتيال محققة"..ويحاولون الآن إخراج الأمر في صورة..أن نتنياهو كان خارج المبنى تخفيفا للضرر المروع في بنية الاستخبارات والأمن..ولن يفلحوا.
الثابت أن حزب الله نقل الصراع لمربع غير مسبوق في تاريخ الصراع..نمتلك معلومات عن مقر إقامة نتنياهو، ونستطيع رغم التأمين الواسع للمجال الجوي الإسرائيلي ولمقر إقامة رئيس الوزراء أن نخترق الأجواء ونضرب المقر..لأ بل نستطيع المقارعة رغم تفاوت الإمكانات..رأسنا برأسكم..أميننا العام برئيس وزرائكم.
أما المؤكد الثاني من إرث السنوار ونصر الله..أن والله هذا كيان بدون أميركا هش وتافه..مهما حاولوا تضخيم صورتهم..ميليشيات مقاومة نجحت في اقتحام الحدود وقتل ألف وأربعمائة إسرائيلي..ميليشيات مقاومة تستطيع قصف مقر إقامة المجرم الأكبر في قيساريا..لكن والله ما انتفخوا وتجبروا إلا بتقاعسنا..
أما المؤكد الأخير..فهو أن المقاومة لا تقف عند الرجال مهما كان قدرهم..أكمل حزب الله في ضرب القواعد العسكرية ومقرات الموساد ومنزل نتنياهو بعد اغتيال نصر الله..وسوف تكمل حماس رغم وداع السنوار..ذلك قدرنا ومصيرهم..إما نحن أو هم .وإنا بإذن الله لمنتصرون.
هل بدأ الرجل نكبة لا تنتهي..أخبرك بلا..النكبة كانت يوم أن قرّر العالم في أوسلو ألا مكان سوى لسلاح الضعفاء..فظهر من بين الضعفاء من يخبرهم ألا سلام على جثته..ولا تسوية على رقبته..ولا أمان لمن سلبه الحياة.
يقول الشامتون بأن أبو إبراهيم تسبب في النكبة الثانية..
الرجل ابن مأساته بالحرف..مُهجّر من أرضه في عسقلان، لطين غريبة في غزّة، حياته ابنة المخيمات، وشبابه ابن السجون، ورجولته ابنة القهر، وموته ابن البندقية..الرجل هو التعريف الحيّ للفلسطيني المستباح المنسي..فكيف تتوقّع أن يكون سلوكه؟..
الناس هنا صنفان..أحدهما يصبح أبو مازن..ولست أقصد بكلمة أبو مازن مسبّة..وإن كان هو بالفعل اجتماع لكل الخسيس من الصفات..ما أقصده..أن ينهار نفسيًا أمام قوة العدو..أو على رأي المثل المصري المعبّر بشدة..‘‘الإيد اللي متقدرش عليها..بوسها‘‘..وده النوع بالمناسبة الأكثر شيوعًا في التعامل مع أي احتلال..التعاون معه والتماهي مع خطابه والتوسّل إليه لانتزاع أدنى حق..يعني أتذكّر في ثورة الماو ماو في كينيا..كل نخب المجتمع الأنيقة كانت ترتدي الشورت الإنجليزي، وتذهب للعب البولو، وتتناول الفيش أن شيبس، وتلوم أحرار الأحراش على هبّتهم..لأ..بل يسلمونهم لجنود الملكة..وقس على ذلك مئات الحالات.
النوع الثاني..وهو نادر جدًا..من تأبى نفسه المذلّة..لا يتحمّل أن توجد سلطة فوق رأسه تعدّ أنفاسه..لا يقبل وإن امتلك متاع الدنيا أن يتنازل عن حقّه في التعبير عن رأيه..والأهم أنه لا يقايض وطنه بسيارة ومنزل..هذه الفصيلة الحرّة من البشر..هي من تصنع التغيير..هو من تخافه آلات المحتل وميركافاته..وليس أحد غيره..أشبعوه نقدًا وذمًا على أنه لم ينس قضية الأسرى..بالنسبة للذليل..يعني 5000 روح وراء القضبان نتركها تتعفن ولا أن نشن حربًا على المحتل..بالنسبة له..هم هو..معاناتهم معاناته وألمهم ألمه..لأنه كان بينهم..والحرّ لا ينسى ثأره ولا يساوم.
مستحيل النوع الثاني يقدر يقنع النوع الأول..لأن مقتربات الطرفين مختلفة..مقتربات العيش بالذل والموت بكرامة..واللي عمل نفسه عقلاني وصفه فورًا بالجنون..ده عايز يحرر الأسرى..مجنون..ده لسه بيقول من النهر للبحر..مجنون..ده مش راضي يقبل بالتطبيع..مجنون..ده مش شايف فرق القوة الهائلة..مجنون..ده مش شبهنا..مش بيركع زي ما ركعنا..مجنون..مجنون يذكّرهم كل لحظة أنه باعوا وفرطوا..ولذلك بالغوا في عدائه أكثر من أعدائه الأصليين..وكما يقول المثل العامي المصري..العين متكرهش إلا الأحسن منها..وبالفعل كان أحسن..الرجل الصواب الحق، في الوقت الخطأ الباطل..وكل وقت تُرفع فيه كلمة ‘‘لأ‘‘..سيكون باطلًا.
النكبة بدأت قبله..فتح والجبهة قبله..أوسلو ومدريد وأريحا قبله..موت الأحلام الكبرى وتصفية القضية قبله..قضم الأرض ومصادرة المقدسات قبله..كل هذا كان قبله..ومع ذلك لمّا تحرك هو..وصفوه هو دونًا عن غيره بالجنون..أوليس الجنون فيمن دفعوه؟..من أغلقوا أمامه كل حل سلمي؟..من مزّعوا قضيته وباعوا وطنه؟..من هيأ لهم عقلهم أن الفلسطيني قد أخصي مرة واحدة للأبد؟..لأ..احنا هنمسك في المشهد الأخير الذي كان تكثيفًا للمظلمة الفلسطينية المنسية..هنمسك في رد فعل على ألف مجزرة ارتكبت خلال قرن من الزمان..وسوف نحمّل من حلم بحرية وطنه كامل المسئولية...فليكن السنوار..مجنوننا الذي نصلبه..نتطهر به أمام العدو من خطيئة المقاومة..فليكن.
رحل أبو إبراهيم..وقد غيّر الشرق الأوسط فعلًا..لا استقرار للكل بدون حق الفلسطيني..الفلسطيني هو الطالب المشاغب القادم من آخر تختة في الفصل، ليفسد المشهد على من أرادوه كلاسيكيًا..محاضر إسرائيلي ببذلة أنيقة، يُملي على 400 مليون طالب عربي، في مدرسة ناطقة بالإنجليزية الأميركية، ما الذي يجب أن يفعلوه لينالوا الرضا..لا فصل ولا حصة ولا درس ولا طالب ولا أستاذ..سيقلبها فوق رؤوسهم..ويعلّم نفرًا من ال 400 مليون قول لأ..وذاك انتصاره..حريق هائل نسف الكل مرّة واحدة..وأشعل نارًا في قلوب مريدين لن يرويهم بعد الآن طوفان بحصيلة 1400 قتيل إسرائيلي..بل دم تلك الفئة كاملة عن بكرة أبيها.
أبو إبراهيم ردّ الصراع لحقيقته الأولى..الحقيقة التي ننكرها حتى نبدو متمدنين..هي حرب دينية-قومية بحتة..أعداؤه أعلنوها فكشفوا عن أنفسهم..عن طبيعة اصطفافهم..البيوريتان التطهريين البروتستانت الأميركيون يحتشدون حول التوراتيين اليهود المتطرفين..ليضمنوا إقامة مملكة إسرائيل الموعودة..لا يحزنون على شهيدنا..لأنهم قالوها صراحة..الإسرائيلي أبيض أشقر كلون عيونهم وشعورهم، وهو بكل جرئمه أقرب إليهم من عربي أسمر أشعث أغبر..هي حرب يهود ومسلمين، عرب وغربيين..وجاء الرجل ليجرد الصراع من كل كذبة أحاطت به..بأنه فقط حرية ضد احتلال..لم يكن يومًا احتلالًا عابرًا..بل تكثيق لرؤى دينية محمولة على أكتاف الجغرافيا والتاريخ.
أبو إبراهيم رجل غيّر تاريخ المنطقة..صنع لأول مرة ‘‘نحن‘‘ في مقابل ‘‘هم ‘‘ ‘‘ المصنوعة من زمن...أبو إبراهيم هو ذلك الرجل الذي تكون سيرته أطول ألف مرّة من عمره..هو العدو العاقل الذي كنت تتمنى محاورته، لأنه إن غاب عن المشهد، سوف يعقبه من لا يملك في قلبه سوى الثأر المفتوح..وهذا ما سوف يتعامل معه الإسرائيليون من الآن فصاعدًا..وإن كنت تسأل
وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك خرجت علنا في مؤتمر صحافي تدعو لقصف المدارس والمستشفيات في غزة بحجة أن مقاومي حماس يختبئون فيها..
يعني أنا لم أشاهد حقارة مماثلة في التاريخ..مستوى مرعب من الانحطاط..زمان كان الإنسان الأبيض يخجل من قول ذلك..يقتل ويسرق في الخفاء، لكن أمام العالم يستخدم مفاهيم الحرية والديمقراطية وحماية المدنيين..الآن وزيرة خارجية دولة أوروبية تدعو صراحة لاستهداف المدنيين..حتى ورقة التوت نزعوها عنهم..وباتت حربهم ضد الكل بلا خجل.
ألمانيا التي هي أصلا ممسحة أحذية أميركية تحولت لممسحة إسرائيلية..تغسل ذنبها التاريخي بدم وعظم الفلسطيني..والله حتى من دلائل الهيستريا الألمانية ما أخبرني به صديق أردني قبل أيام قليلة..
مطعم سوري في زاربروكن يبيع الشاورما..عمل عرض على ثلاث ساندويتشات شاورما بسعر اثنين، طيلة يوم السابع من أكتوبر..فاشتكاه الناس ورفعت الولاية دعوة عليه بتهمة معاداة الخنازير..وصاحب المطعم السوري أصلا لا يقصد..هو أمر تجاري فقط..لكن حظه العاثر أنه اختار تاريخ الطوفان المجيد.
هيستريا ورعب من ذكرى الطوفان..اليوم الوحيد الذي رأوا فيه منا بأسا وقوة..اعتادوا رؤيتنا أذلاء نطلب المعونة فيرمون إلينا فتات طعامهم..ولما رأوا قوتنا..خافوا وارتعبوا وحاصرونا وقتلونا..ترغب ألمانيا في رؤية العربي المسكين مستحق المعونة..أما العربي القوي..فلنقصفه حتى في المدارس..وذلك عقابهم لنا.
بالله..قاطعوا المنتجات الألمانية..شهروا بألمانيا وحكامها وشعبها المتواطيء..هذه بلاد لو هاجرتم إليها ستجدون أنفسكم مطالبين بالإجابة على أسئلة من نوعية..ماذا تعتقد في آيات القرآن التي تتحدث عن اليهود؟..وسيكون مطلوبا منك إنكارها للحصول على الجنسية كما حدث في هامبورج..سوف يسألونك عن موقفك من إسرائيل ولو أنكرت وجودها ورفعت كلمة فلسطين..لن يسمح لك بالبقاء فيها..مهما كنت مجتهدا في عملك وتدفع الضرائب المستحقة..
هذه دولة سلمت إسرائيل حتى اللحظة بثلاثة أرباع المليار يورو من الأسلحة لتدمير غزة..وتدعو الآن علنا لقتل المحتمين بالمدارس والمشافي والمساجد..قاطعوهم..فليس هناك ما يؤذي الألمان أكثر من تراجع صادراتهم التي بنوا جزء وازنا منها من جيوبنا نحن..وهذا أقل القليل مما ندين به لإخوتنا..لعنات الله على عالم الرجل الأبيض.