في لحظات الصفاء، يداهمني شرود الذهن، فأجدني أُطيل النظر إلى تفاصيل السقف، مُستغرقًا في عالمي الخاص، لكن سرعان ما يُوقظني صوت الحياة الصاخب من حولي، فأنتفضُ وأخرج إلى الشوارع، بجسدٍ وعقلٍ يتوقان إلى الانغماس في خضمّها،
أُحبّ هذه البصيرة التي تُعرّفني على عجائبَ تفوقُ خيالاتي. ففي لحظات التجوال تلك، أعيشُ تجاربَ لا تُقدّر بثمن، كأن أرى شيخًا في السابعة والتسعين من عمره، يُصارعُ الصعود إلى الحافلة بصعوبة بالغة. يكادُ اليأسُ يتملّكُه، لكن ما إن يتمتم بـ "يا الله"، حتى تُضيءَ عيناهُ وتشتعل فيه جذوةٌ من النشاط، وكأنّ هذه الكلمة سرٌّ يُعيدُ إليه شبابه. يبدأُ بالحديثِ عن أيامه الخوالي في ربيعه الواحد والعشرين، وكأنّ الماضي يعودُ إليه في لحظةٍ خاطفة. ثمّ فجأةً، ينقلبُ حديثه إلى تساؤلاتٍ عن سبب فقدانه لبصره، وكيف تحوّلت حياته إلى سوادٍ قاتم. يُثيرُ دهشتي هذا التحوّلُ المفاجئ، خاصّةً وأنّه قد رفضَ مساعدة الركّاب وصعدَ الحافلة بمفرده، تُرى، هل هي بصيرة القلب التي تُضيءُ له طريقه؟
أو تلك الأمّ التي تنهمرُ دموعها حُزنًا على ابنها المريض، الذي يُوشكُ أن يفارق الحياة قبلها، يبدو الأمرُ مُحيّرًا، فربّما كانَ الموتُ راحةً له من سماعِ أنينها وبكائها ودعواتها التي لا تنقطعُ في جوف الليل،
ثمّ هذا الرجلُ الذي يُسندُ رأسي على كتفه، رجلٌ أضناهُ الكتابة والنّظم، حتى أثقلتْ يمينُه. كانَ هو الآخر قد اتّخذ من الكتابة ملجأً لروحه، حينَ رأى قلمي، بدأ يصفُ جوّ الحافلة الكئيب، فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ ساحرة، بدأ يسألني عن كيف لي، وأنا في هذا السن من عمري، أن أُعبّر عن مشاعري بهذه الدقّة، لم أستطع أن أُخبره الحقيقة، خشيةَ أن تتلاشى تلك الابتسامة، فحتى لو كانَ مجنونًا، لن يُصدّقَ أن الكآبة التي تُعبّر عنها نصوصي قديمةٌ قِدمَ ثمانين ربيعًا مضت، وليس ربيعَ الرابع والعشرين هذا✍️♡
-السُميعي