نَقَّبُوا عليه تُراب غزَّة، فقد كان المطلوب الأوَّل لهذا العالم العاهر! كانتْ تُهمتُه أنَّه كان حُرًّا، وهذا الكوكب العبد لا يُربكه شيءٌ أكثر من أن يرى حُرًّا بيده بُندقيَّة! طالما آمنَ أنَّ هذه الأرض غابة، وأنَّه لا شيءَ فيها بالمجان، وأنَّه لن يأتيَ أحدٌ إليكَ ليقولَ لكَ: هذا حقُّكَ فخُذْه! تريدُ شيئاً، قُمْ وخُذه رغماً عن العالم كله، واركُلْ قانون الغاب بحذائك! مهما صرختَ لن يسألكَ أحدٌ ما بكَ! ومهما نزفتَ فلن يلتفتَ أحدٌ إلى جُرحكَ! ومهما شجبتَ وأدنتَ فلن يستمعَ إليكَ أحد! فقط في اللحظة التي يُصبح لديكَ صاروخ وبندقية ورصاص وقذائف الياسين، سيصبح صوتُكَ مسموعاً، ووجهُكَ سيُزيِّنُ الصَّفحات الأولى من الجرائد!
نقَّبُوا عليه تُراب غزَّة! كانوا يبحثون عنه في الأنفاق، فقد أخبروا العالمَ كلَّه أنه يحتمي بالأسرى كي لا يُقتل! ثمَّ جاءت الصُّورة الأخيرة لتهُزَّهم، وتهُزَّنا، وتهزُّ العالم كله معنا! حين صوَّروه بأنَّه الطَّريدة اكتشفوا أخيراً أنه كان الصَّياد! وحين اعتقدوا أنهم يبحثون عنه اكتشفوا أخيراً أنه هو الذي كان يبحثُ عنهم! وجدوه في الصُّفوف الأولى واقفاً بين يدي الموت غير عابىءٍ به ولا بهم ولا بالعالم كلِّه! وستبقى صورة موته مدهشةً تماماً كما هي صورة حياته! بندقيته في يده، ومسدسه على خصره، وجعبته على صدره، مصحفه رفيقه، وسُبحته في جيبه، وورقة الأذكار زاده، ودمه شاهداً عليه! قدَّمَ إلى الله عذره، شُقَّتْ جُمجمته، وفُدغَ رأسه، نزفتْ يده، وتهشَّمتْ رُكبته، لم ينحنِ، وظلَّ يُقاتل حتى آخر ثانية، وعندما سقطتْ بُندقيته رماهم بالخشب! هزمهم في موته، تماماً كما هزمهم في حياته!
أخذَ يحيى الكتابَ بقُوَّةٍ فلم يترُكْ عُذراً لأحدٍ! فإن لامه أحدٌ عن الدِّماء، فهذا هو دمه! وإن لامه أحدٌ على الهدمِ، فها هو تحت الرَّدمِ! وإن لامه أحدٌ على الجهاد، فها هو جهاده! وإن لامه أحدٌ على كلِّ هؤلاء الشُّهداء، فها هي شهادته! وإن لامه أحدٌ على العُمر، فها هو عمره أفناه مطارداً، وأسيراً، ومطلوباً، ومقاتلاً، ومحرِّضاً، وشهيداً! وإن لامه أحدٌ على التَّعب، فها هو قد أمضى عمره منهكاً! وإن لامه أحدٌ عن الذين لم يكن لهم قبورٌ، فها هو جثمانه بيد عدوِّه، زهدَ في كلِّ شيءٍ حتى في أن تكون له جنازة تليقُ به، وما عند الله خيرٌ وأبقى! كفُّوا الملامة، فإنَّ من سوئها أن يُلامَ المرءُ لأنَّه كان رجلاً!
لا تَبْكُوه، فالرَّجُلُ لا يُبكى حين يلقَى أُمنيتَه، وإنّما يُبكى حين تفوتُه، وما كان لمثلِهِ أن لا يقعَ على ضالَّتِهِ وتقعَ عليه! ثمَّ إنْ لم تكُنْ هذه أُمنيةُ كُلُّ واحدٍ مِنَّا فعلى أيِّ شيءٍ نسيرُ في هذه الطريقِ، وعلى أيِّ شيءٍ نرفعُ الأَكُفَّ ندعو: اللهُمَّ خُذْ من دمنا حتى ترضَى! وعلى أيِّ شيءٍ نتعاهدُ صباحَ مساءَ أنّنا لن نتركَ السّاحَ ولن نُلقيَ السّلاح! لم يُصبْنَا العدوُّ في مقتلٍ، فمقاتِلُنَا لم تكُنْ يوماً مخبوءةً، منذُ زمنٍ ونحن نُقدِّمُ قبلَ الجُندِ قادتَنا! هذه الحركةُ ولّادة، وهذا الثّغرُ مُستخلفٌ، ولولا مُضيِّ صاحب بأسٍ قد سبقَ، ما عرفنا بأسَ الذين لَحِقُوا!
السَّلامُ عليكَ يا أبا إبراهيم! السَّلامُ عليكَ يوم تُبعثُ حيًّا على ما متَّ عليه، بندقيتُكَ في يدكَ، وجعبتُكَ على صدركَ، وسُبحتُكَ في جيبكَ، وجروحكَ تثعبُ دماً كيوم أُصبتَ! السَّلامُ عليكَ يوم تقفُ بين يدي ربِّكَ برأسكَ المشقوق، وإصبعك المقطوع، وعظمك المهشَّمِ، وتقولُ: أرضيتَ يا ربّ؟!
أمَّا أنتم يا أحبابه وإخوانه وقومه: إنَّ النَّبأ عظيم، فلا ترثوه، كلُّ الكلمات الآن بلهاء، رثاؤه أن تموتوا على ما ماتَ عليه! في الخالدين يا أبا إبراهيم، في الخالدين!
"لم أغلق الأبواب كلها، تركت لك بابًا مواربًا دائمًا.. ليس استجداءًا للفرص، أو رغبةٍ بالوصل..أو ترددًا بالرحيل، لكن حتى ونحنُ لاشيء أنا أعرف معنى أن تقسو عليك لياليك ولا تجدني!"
هل فكرت يومًا أن تذهب بعيدًا وألا تعود أبدًا ؟ أن تهرب وتضل الطريق، أن تذهب لمكان بعيد جدًا، وتبدأ الحياة من جديد، حياة جديدة تمامًا، خاصة بك أنت فقط، تستمتع فيها بكونك على قيد الحياة حقًا، هل سبق وأن فكرت في ذلك ؟ كثير
"اللهم أنت المُرَجَّى في انكشافِ الكُروب، لا سببَ إلا سببُك، ولا فضلَ إلا من عندك، تفضَّل على عبادك المرابطين في غزة وفي سائر أرضِك بنُصرتك وتفريجك، فإنّ الأملَ بغيرك منقطع، والشرُّ بإذنك مندفع، ربّاه كن للضعفاء الذين ما عَبدَوا سواك، وما ابتغوا إلا إياك." 💚
ينفطرُ قلبي حين أقرأ في كتبِ الحديث أنَّ صحابياً سأل آخر: من أين؟ فقال له: من عند النَّبي ﷺ وصحابياً لقيَ صحابياً في الطريق فقال له: إلى أين؟ فقال له: إلى النَّبي ﷺ هكذا بهذه البساطة، وبهذا الجمال، من عند النَّبي ﷺ وإليه!
وددتُ لو أني آتيه، فأقولُ له: يا رسول الله، قلبي يؤلمني! فيمسحُ على صدري، ويُصبرني، ولعله يقول لي: لا تبتئسْ إنما هي أيام وتمضي! أو لعله يضعُ يده فوق قلبي ويقول: اُثْبُتْ قلب! فيثبتُ ويطمئن، فقد ثبتَ أُحدٌ حين نادى عليه!
وددتُ لو أني إذا اشتقتُ إليه، وصدر مني نشيجُ المشتاق، رقَّ لي كما رقَّ للجذعِ، فيحتضنني كما احتضَنَه ثم بعدها، على الدنيا السّلام!
وددتُ لو أني إذا خاصمتُ حبيباً جئته فطلبتُ شفاعته، فمشى معي يرممُ شرخَ قلبي، تماماً كما سعى في شوق مغيثٍ حين تركته بريرة، وقال لها: لو راجعته!
وددتُ لو أثقلني دَيْنٌ فجئته شاكياً، فمشى معه يستشفعُ المدينين لي، تماماً كما مشى في دين جابرٍ، وقال لليهودي الذي له عليه دين: أَنْظِرْ جابراً!
وددتُ لو أساءَ لي صديقٌ فجئته متوجعاً، فانتصرَ لي، كما انتصرَ لبلالٍ حين قال له أبو ذر: يا ابن السوداء! فقال له: أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيكَ جاهلية! أو لعلي كنتُ يومها عزيزاً على قلبه كأبي بكر، فغضبَ لي، وقال: هل أنتم تاركو لي صاحبي!
وددتُ لو أني إذا مرضتُ عادني في بيتي، كما عاد سعد بن أبي وقاصٍ، وربتَ على قلبه!
وددتُ لو أحزنني شيءٌ فواساني، كما واسى صبياً ماتَ عصفوره!
وددتُ لو أهمني أمر صغير حتى، فجئته ليخفف عني، ويمشي لي فيه، كما مشى مع جاريةٍ صغيرةٍ يشفعُ لها عند أهلها، حين أرسلوها في حاجةٍ لهم فتأخرت عنهم!
وددتُ لو أني سافرتُ معه، فحرسته بقلبي وعيوني، فلعله نام على دابته من تعبه، فأسندته، فقال لي كما قال لأبي طلحة: حفظكَ الله كما حفظتَ نبيه!
وددتُ لو قاتلتُ معه يوم أحدٍ، لأسبقَ طلحة، وأحني ظهري قبله، ليدوس عليه ويصعد الصخرة، ثم يقول: أوجبَ أدهم!
وددتُ لو أنها كلما ضاقتْ مرَّ بي كما مرَّ بآل ياسرٍ، وقال: صبراً ياسرٍ فإن موعدكم الجنة! كان ليهون كلَّ شيءٍ عندي وقتها!
تسألني: لماذا لم يُعطني الله ما سألته إياه؟ فأقول لك: إن الطبيب لا يعطينا الدواء الذي نريده، ولكنه يعطينا الدواء الذي نحتاجه! ولعلك تطلب من الله ما فيه ضررك! أنت تنظر إلى الأشياء بنظرتك البشرية القاصرة، والله يدبِّر الأمر بعلمه الكامل!
يا صاحبي، إنَّ الصبي الصغير إذا رأى حبوب الدواء الملونة بكى يريدها، فمنعه أبواه منها، الطفل يحسب في الأمر حرمانًا، والأبوان يعرفان أن بعض المنع عطاء! هكذا يدبر الله الأمور برحمته، فتأدَّب! أو لعل الله أراد أن يعطيك ما سألته، ولكن الوقت لم يحِن بعد، التوقيت جزء من حكمته التي لا تراها!
يا صاحبي، اقرأ قول ربك: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ ثمّةَ أشياء عليك أن تنضج لتحافظ عليها إن أنت أُعطِيتها!
يا صاحبي، لو فرّج الله عن يوسف عليه السّلام أول الأمر؛ ما كان له أن يصل إلى كرسي المُلك، كان يوسف بين القضبان، ولكن يد الجبار كانت طليقة تدبر الأمر، وتُهيّء الأسباب للأعطية الكبرى.
يا صاحبي، عشر سنوات لموسى عليه السّلام في مدين لم تكن مَضْيعة، كان على الظروف أن تتهيأ في مصر لقدومه، وكان عليه هو أيضاً أن يُصقل جيدًا، فالحِمل ثقيل لاحقا، والتأخير صقل وإعداد!
يا صاحبي، أراد المسلمون أن يُشهروا سيوفهم في مكة، ويدفعوا عن أنفسهم الظلم، ولكن الإذن بالقتال تأخر لما بعد الهجرة الشريفة! الذي نصرهم بعد الهجرة كان قادرًا على أن ينصرهم في بطن مكة قبلها، ولكن الله أراد أن يُربِّيهم أولًا؛ لأن السيف الذي ليس وراءه عقيدة؛ سرعان ما ينحرف، وقد أراد ربك أن تُحمل السيوف إعلاءً لكلمته، لا انتقامًا من العدو، ولا انتصارًا للذات!
يا صاحبي، لقد كان في قصصهم عبرة؛ فتأمّل واعتبر! فإن مُنعتَ مطلقًا؛ فهي الرحمة، وإن أُعطيتَ؛ فهي الحكمة، وإن تأخرَّت العطية؛ فهذا ليس أوانها!
"ماذا لو أنّ الله يُرتب لك ما تتمناه؟ يعلم الدعاء الذي تكرره وحُلمك الذي تنتظره وطلبك الذي تلح به في كل سجدة يعلم الله أين كسر قلبك وسيجبره يعلم النغزة التي في صميم قلبك وسيداويها يعلم صبرك وقوة تحملك وسيمطر سماء روحك بعوض جميل ماذا لو أن ماتدعو به الله هو مقدر لك من الأساس" ❤️
ها أنتَ الآن منهكٌ مجدداً، حتى أنكَ عاجزٌ عن النومِ رغم شدَّة التعب، تدور في رأسكَ ألف فكرة، حتى ليُخيّل إليكَ أنَّ العالم الذي في رأسكَ أكبرُ من العالم الذي رأسكَ فيه!
وحيدٌ رغم كل هذا الزّحام حولكَ! كلهم يرون صلابتكَ، تلكَ القشرة السميكة التي تُغلفُ بها نفسكَ، كثمرة الجوز، صلبة جداً من الخارج، ولكنها من الداخل هشَّة! لا أحد منهم يرى هذه الهشاشة التي أنتَ فيها!
كلهم يرون ابتسامتكَ، تلك التي تعلو محيَّاكَ دوماً، ولا أحد منهم يعلمُ أنك تنتظرُ أن تنفرد بنفسكَ لتبكي!
كلهم يستندون عليكَ، هكذا عودتهم أنتَ، أن تكون كتفهم وعكازهم، ولكن كيف تخبرهم أن حتى الأقوياء تمرُّ بهم لحظات ضعفٍ ويحتاجون من يسندهم أيضاً؟ ولكنكَ لا تجرؤ أن تبوح بضعفكَ، لا يمكن للشجرة أن تقول: أريدُ أن أستلقي قليلاً لقد تعبتُ من الوقوف!
لا عليكَ يا صاحبي، لا عليكَ، هذا هو قدرك، أن تكون كالشمعة التي تحرقُ نفسها لتضيء للآخرين! اُثبتْ فلعلَّ في ثباتكَ ثباتاً لكثيرين يتعزون بكَ، ولو مِلتَ لمالوا! أعلمُ أنك تعبتَ، ولكنكَ لا تملكُ رفاهية أن تستريح قليلاً، الجنود لا يستلقون أثناء المعركة وإن أنهكهم التعب!
والآن قِفْ هُنيهةً، وأَعِرْني قلبكَ قليلاً يا صاحبي! ألمْ تقل لي يوماً: الناس في هذه الحياة لا يمشون إلا في دروب أقدارهم! فلا تقتلْ نفسكَ بكثرة التفكير، ولا تشغل قلبكَ بما ليس لكَ يدٌ فيه! أمر اللهِ نافذٌ لا محالة، مهما بدت لك الطرق عسيرة، والأبواب مغلقة! ليس لكَ إلا السَّعي، وليس عليكَ إلا أن تمشي، أما متى تصل، كيفَ، وأين؟ فهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله!
شيءٌ واحدٌ لا تنسَه يا صديقي، بعض المسؤوليات اصطفاء! واللهُ لا يستخدمُ في سبيله إلا من كان نقياً! نحن لا نستخدم أداةً متسخة لننجز عملاً ما، هذا ونحن بشر، فكيف بالله وهو الله؟! ما دام قد استخدمكَ فقد نظر إلى قلبكَ، فارتضاه، فأي شيءً بعدها يمكن أن يُكدّركَ؟! المعركة صعبة يا صاحبي، أعلمُ هذا جيداً، ولكن ألم يخطر لكَ ولو من باب المواساة، أن الله لا يعطي أصعب المعارك إلا لأقوى جنوده؟!