فكلَّما ازددت علما واحدا؛ ازددت علوما في ما علمت، وهذا أمرٌ مشاهد في العلوم الدنياويَّة، فانكشافٌ واحدٌ؛ يفتح أبوابا لانكشافات جمّةٍ؛ ولذلك ولوع العلماء بكلِّ حقّ -وإن صغر- فإنّه عظيم؛ لِعِظَم ما يهدي إليه.
دمشق كانت لبَّ العربيّة، وبقيت لبّ العربيّة، وستطلعُ على العصور القوادم وهي للعربيّة لبّ وقلب وفؤاد، لها لينُ الماء الذي يضحك به بردى، وشدّة الصّخر الذي يشمخ به قاسيون، وصراحة السّهل الذي تزدهي به المزّة، وكرم الأرض التي تعطي -في الغوطة- أكلها أربع مرّات في العام.
الذي حدث درس مدهش في الخيال، أيُّ خيال هذا الذي يطوي بين جنوبه دمشقَ وحمص وحلب ودرعا محرَّراتٍ في غضون عشرة أيام، ما لو طولبت به الآمال الفساح لضاقت عنه!
يبلغ كلُّ أديب، وشاعر، وناثر، بخياله رحاب السماوات، ومنقطعات الدنيا، ولكنه لا يجرؤ أن يتخيل كما يتخيل هؤلاء.
كان مِنْ قول موسى -عليه السّلام- حين دخل على فِرْعون: «اللهمّ إنّي أدرأُ إليك في نَحْره وأستجيرُ بك من شرِّه وأستعينُ بك». فحوّلَ الله ما كان فِي قلب فِرْعون مِنَ الأمْن خوفا.
أستحضرُ في هذه الأوقات أبياتا لأبي تمام يمدح فيها أبا سعيد الثغري، إذ مضى الأخيرُ إلى الرّوم مُستبسلا مقاتلا في وقت الشتاء والبرد، فيجهزُ هذا البطل على العدوّ في ناحية الشمال، فيجيئه بموتٍ آخرَ من ناحية الجنوب [فليجدكم العدوّ حيثُ يحذر]:
لقدِ انصعتَ والشتاءُ له وجـ ـهٌ يراهُ الكُماةُ جَهما قَطوبا
طاعنا منحرَ الشّمال متيحا لبلاد العدوّ موتا جنوبا
ويصف أبو تمام الريحَ الباردة التي فيها شيء من المطر في الحرب، بـ "البليل". وأما السبرات؛ فهي الغدوات الباردات، والصِّنبر شدةُ البرد:
في ليال تكادُ تُبقي بخدِّ الـ ـشمسِ من ريحها البَليلِ شُحوبا
سَبَراتٍ إِذا الحُروبُ أُبيخَت هاجَ صِنَّبرُها فكانت حُروبا
وما يُذهبُ هذا البرد أن المعركة عندما يُحمى وطيسها ويشتد ضرامها، فإنها تُذكي في نفوس أبطالنا شرارةَ إحدى الحسنيين، والمعنى: أنّ هذه الأوقات الباردة تدفع مجاهدينا إلى القتال أكثر من غيرها، يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: "ما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أُبشّر بغلام، أحب إليّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سَرِيّة أصبّح فيها العدو"
فمجاهدونا أمام عدوّين: العدو الحقيقي والبرد، دثِّروهم بدعائكم :)