كانت لي يومًا أمانٍ، سعيتُ بالوصولِ لها، ولمّا طرقتُ أبوابَها لم تُجِبني، فلم أملك إلا أن أنصرف عنها إلى حيثُ ينصرفُ الآيِسُ من مطلوبِه.
ودارت الأيامُ دورتها، ودار معها قلبي، وجعلتُ بوابةَ قلبي مِقصلةً جَذَذتُ عليها رِقابَ أحلامي، ثم عِشتُ في الظلِّ وحيدًا، وحيدًا لدرجة أني كنتُ أرفضُ زائرَ الخيال الذي يُسلّيني.
وذاتَ يوم حينَ جاء موعدُ غلقِ نوافذِ عيني، في حينِ خُلوةٍ -ووقتها كان كلُّ جلوسي خُلوة- طرقَ طارقٌ، فأجبتُه بأن النفسَ هُنا لا ترجو شيئًا، ألَحَّ عليَّ شيئًا فشيئًا.. حتى أسرَني، قلتُ له: ما تُريدُ مني؟ قال: أنا هِبةُ الزمان لك! لم أستطع صرفَه، لقد استملكَ مُهجتي منّي!
ما أشبهه بالكبريت الأحمر، لا أحسبُني ألقى مثلهُ أبدًا! عاودتُه سائلًا: وإلى ماذا ترنو مني؟ قال: أنا بُرء الزمان لك، أستنقذك من كلابيبِ نفسِك التي بينَ جنبيك، مستوطنُ آمالك، مأرب ضياعك، ألا ترى أنك لا تملكُ أسبابَ تصريفك إليّ هاهُنا؟
إي وربّي لقد صدق، وقد كان يد السّلوى التي امتدّت إليّ لتحنو على جِراحاتي، وقد آنَسني لما فقدتُ الناسَ من حولي، لما كنتُ خواءً من الأشياء، يومَ كنتُ جدبًا من كل شيءٍ إلا الندم، وهدَّتني أشواقي، وتبرَّأ مني أمَلي، قد كان موجودًا ولو لم يكُن يعلم بهذا.
على أن الحرفَ لا يجري إلا بالقدَر المكتوب، فلا أرى حروفَ مدحٍ إلا وتبخسُه، ولا تتغيّا الكلماتُ غاية الثناء عليه إلا وتعجزُ عن ذلك، ولعلّ ازدحام معانيه أفقد الناس القدرة على وصفه، اتحدَ فيهِ المبنى بالمعنى والمعالمُ بالمفاهيم، لقد كانَ بلاغةً تمشي على الأرض!