لم يكن بَالحسبان أن أترك ذلك المنزل المغمور بالذكريات والحب، الذي كان ملاذًا لأيامنا البريئة، حيث كانت الجدرانه تحتفظ بِصوت ضحكاتنا وأحلامنا الجميلة، كان الأمان لنا، نشعر فيه بالسلام والراحة والسكينة، حيث لا شيء يمكن أن يهدد سعادتنا ..
لم أدرك ذلك إلا في وقت متأخر، أنني لن أسترجع أماكن طفولتي، ولن ألتقي تلك الوجوه التي كانت تملأ حياتي بالأمان والطمأنينة، كنت أظن أنني سأظل وأكبر هًناك في غرفتي بين الأشجار المثمرة بالحب من أجدادي، مستوطنة في مكان يجمع كل ما أحببت، لكن الزمن لم يكن يرحم ..
اليوم، لم يعد مصدر الأمان تلك الأبواب المغلقة، ولا أجد تلكَ الجدران التي كانت تحيطنا بحبها، تغير كل شيء، وكأنما كل شيء قد تبخر في الهواء، ولم يبقَ سوى الصمت والفراغ ..
تبين لي أن شعور الغربة ليس مجرد ابتعاد المرء عن الوطن فقط، بل هو أن تجد نفسك غريبًا في مكان كنت فيه يومًا ما، وكل زاوية فيه كانت تشهد على قصصك، أحلامك، وخطواتك الصغيره فيها، قد تعود إلى تلك الأماكن، لتجد أنها أصبحت ذكريات عميقة في قلبك، بينما لا تجد في الواقع سوى كومَة من التراب وبعض الآلات التي تُبني من جديد، تحاول أن تعيد بناء ما تهدم، دون أن تلمس شيئًا من روح الماضي ..