الاستشهاد مرتين
أيّها المجلّل بالبهاء الملكوتيّ، والموبوء بحلم إنقاذ العالم، ألا نستحقّ منك تهيئةً للغياب ومقدّمةً له، كأن تقول لنا وأنت ترجم الآسن من خطايانا، ولو حتى بإيماءة: " لا تركنوا للورد ولا تعوّلوا عليه كثيرًا لأنّ عمره قصير دائمًا"؟ فأنا لم أسمع منك، ولا غيري ممن أحبّك، هذا التحذير المهمّ برغم إدماني على الإصغاء لكلّ ما تقول منذ ألفيتُك وردًا برائحة جنوبيّة. كنتُ أثملُ بكيانك النوريّ، فمعك أكون أجمل وأكثر أملًا، وتطمئن روحي إلى أنّك لن تغيب، كأنّك شمس، فهي تغيب فقط إلى حين لتشرق من جديد. سَحَرتك أعرافُ الشموس وسُننها ابتداءَ من قبّة عمامتك حتى موطئ قدمك، فآوينا إليك، أيّها الراضي المرضيّ، برغم أنّ مَن يناوئونك كثيرون ومدجّجون بالضغائن قبل البارود.
طريقتي باهتة لتأبينك حتمًا، لأنّي صدّقت مذعنًا أخيرًا أنّ الحاضر المليء بك ويكاد أن يكون حكرًا عليك وحدك قد خلا منك، لذا عليَّ تصديق وقبول الفعل الناقص "كان" على مضض وقد كنتَ حاضرًا مدهشًا، تملأ الدنيا وتشغل الناس. أيليق ببهائك الذي يعرفه الجميع، باستثناء أعدائك من الصغار، أن يصبح خبرًا فقط يسرُّ أثرياء الدم، ومعهم من العربان مَن خلع أخيراً قناعه فبانت سوأته لا ريب فيها؟ كتبتُ تأبينًا لك، يا سيّد الروح، حين أذعنتُ أخيرًا أنّك لن تكون حيًّا معنا، وليس عند ربّك الذي وهبك، سبحانه، ما لم يهبه لغيرك، فأنت حيّ عنده، تُرزق.
حزني مع "نبأك العظيم" مشوّه ومشوّش، فوجودك ضروري لازم، استيقنتْه بداهةُ منطق ملاجئ يوم القيامة التي شيّدها أعداؤك منذ غدوتَ درّة التاج لحزب الله في 1992. لذا، أنظر لأصابعي، التي تكتب لك، بعد أن كتب أعداؤك وأعداؤنا على شاشة "العربيّة":" قتلنا ح.س.ن ن.ص.ر الله"، لأتأكّد أنّها خمسة، وأتساءل ودمعي معي يؤازرني: هل يمكن ألّا تكون خمسة؟ لا يمكن طبعًا، إذن كيف توارى ن.ص.ر الله، بأيّ منطق، وهناك مَن يعدّ وجودَه أمرًا مفروغًا منه، في الأقلّ إلى أن يرى، ونرى معه، زوال من شرّفوه بالشهادة؟
استطعتُ بدمعي الفاره فهمَ استشهادك الأوّل خبرًا نشرتْه "العربيّة" بحروف الشماتة المشعّة، لكنّي لم أفهم إلى الآن استشهادك الثاني، حين يصرّ مَن لا تروق لهم، برغم الشبه الكبير بين دمك ودم جدّك الحسين سلام الله عليه وعليك، على أنّك لستَ شهيدًا ولستَ مقاومًا ولست مسلمًا أصلًا. وحين يدهمهم سؤال قلوبنا: لماذا؟ يحارون فيحيلون الإجابة للسديس أو لغيره، فيتأتئ: لأنّ ن.ص.ر الله لم يحضر حفلات مواسم الرياض. لكنّي، بشيء من منطق وإن كان وعرًا صعب التصديق، أسمع كثيرًا من يُنكر على جدّك الحسين استشهاده، فأنّى لهم قبول استشهادك؟
لم أعتد رثاء الكبار جدًّا لمعرفتي أنّهم أكبر بكثير من اللغة. لكنّ هذا لم يمنعني من أهنّئ نفسي على حبّي الكبير لك، وأعزّيها بغيابك الذي انتهى بتوقّفك عن محاولاتك إسعاد العرب، ومعها مَن يحبونك جدًّا، بالقدر نفسه.
سلمان كيوش