سفاه ابن الأربعين..
.
.
من جنايات وسائل التواصل على الناس أن صارت بديلا عن مجالس الرجال، وكان الرجال إذا جلسوا في مجالسهم تمايزوا بالأسنان والأحلام والأفهام، فكان للشيوخ مجالسهم، وللكهول مجالسهم، وللفتيان مجالسهم، فإن خلط أهل مجلس بهم غيرهم، تحفظوا لذلك رعاية لقدره إن كان يكبرهم، ولفهمه إن كان يصغرهم. فلما تقابل الناس في هذا الزمان على الشاشات سوّى التواصل بينهم فيما يختلفون فيه، فصارت كلمة العالم والجاهل معروضتين على سماط واحد، وصار رأي الحليم والسفيه على كفتين متكافئتين.
.
وقد نفخت وسائل التواصل في مناخر الجهال والسفهاء، فتصدّروا للحديث وزاحموا بالمناكب أهل المعرفة والرأي، وتقدموا من حقه التقدمة بما استقر في نفوسهم من وهم الأهلية، وما أعظم الفرق بين جاهل يُقدِم وهو يرى في نفسه الأهلية، وبين عالم يقدِّر ثم يتكلم بدافع المسؤولية. وأي بلاء أعظم من أن ترى من لا أهلية له، ولا مسؤولية عليه، يغالب بسفاه رأيه ولغْوِ قوله من أخذ الله عليه الميثاق أن يبين الكتاب للناس ولا يكتمه، فيكون الأول بمنزلة من حكى الله عنهم قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).
.
ومن تجرأ على الكلام في حداثة سنه، وقلة علمه، فوجد من يصغي إليه ويصفق له، ويردّ عنه، لم تزده الأيام إلا قلة علم وسفاهَ رأي، وذاك سفاه ابن الأربعين الذي عنه جرى الحديث. فإن من استقر في وهمه أن حاله حال كمال، رأى في طلب العلم واستماع الرأي والإصغاء للموعظة نقصا من كماله الموهوم، فتحامى هذه الثلاثة التي هي حياة القلب، ووقود الفكر، وميزان النظر.
.
وإن من بصائر القرآن أن الله تعالى كما وصف لنا أحوال الكفار والمنافقين والمجرمين، وصف لنا أحوال السفهاء الذين لا يعقلون، أهل الغباوة وقلة التقدير، لما يجرّونه على المسلمين من الفساد في الرأي والخراب في العمارة والخسران في التجارة. فحذرنا الله أحوالهم لئلا نداخلهم ونخالطهم، فكان أولى إن نحن عقلنا عن الله الموعظة ألا نقدّمهم ولا نمكّنهم.
.
ولأهل السفاهة في أبواب الكلام علامات معروفة، بل أعلام منصوبة، منها كثرة الكلام، ومداومة الكلام، والقصد إلى كل معنى بالكلام، والكلام إذا تكلم العقلاء حيث يُطلب الاستماع، والكلام إذا أمسك العقلاء والمطلوب الاقتداء، والقطع إذا ظنّ أهل العقل، والمبادرة إذا قدّر أهل الشجاعة، والصبر على الباطل إذا انكشف، والتصميم على الخطأ إذا تبين. وبالجملة، فلا يسلك الفضلاء فجا إلا سلك السفهاء فجا غيره، مضارّة ومخالفة، واستثقالا للحق أن يصحبوه، واستبطاء لمشيه أن يسايروه.
.
وفيما رقمه اللوحُ كفاية، ونعوذ بالله أن نذم قوما تشهد علينا أحوالنا بمشابهتهم، ويحملنا كشف أحوالهم على مجاراتهم. بل نسأل الله الإخلاص في النية، والقصد في العمل، والعصمة من صنيع يحور آخره على أوله. والله المستعان.
#آمنت_بالله_وحده
.