طريق الورّاق..
.
.
جمعني حديث ماتع مع أخي الحبيب الدكتور عبد الناصر بن بناجي-كما هي كل أحاديثه أسعده الله-، فشكوت إليه وشكى إليّ ضعف القوة عن الإدارة الحكيمة والمنظمة للحياة العلمية، وما لا نزال نتقلب فيه من المشاريع العلمية التي نعشق فتحها ثم لا نلبث أن نكسل عن المضي فيها واستكمالها. وأحسب أنها حال مئات المحبين للعلم، الذين يتخبطون في هذه الآفة القاتلة للبحث العلمي..
.
والحقيقة أن مما اعتذرت به إلى أخي عبد الناصر فوجدته يقرّني عليه بل يشاركني فيه: أننا لم نحظ بفرصة صحبة "مؤلف"، مع أن كثيرا من شيوخنا راسخون في العلم، ولا نزكيهم على الله، ولهم في الفهم باع ما هو بأقصر من باعهم في العلم، ومنهم من تعانى صنعة التأليف وأبدع فيها، غير أن صحبتنا لهم كانت صحبة المتعلم للعلم، الحريص على التحصيل، ففاتنا حظنا من تعلم سياسة العلم التي من شعبها قواعد التأليف، المسماة بلغة العصر: إدارة البحث العلمي..
.
ومع أننا مررنا بتجربة التأليف من خلال بحوث الدرجات العلمية في الجامعة، فإن هذه التجربة لم تسعفنا كثيرا بعد ذلك، لأنها تجربة تديرها الجامعة بسلطتها، والزمن بضيقه، فلما وكلنا إلى أنفسنا في إدارة ما نشتغل به من بحث وكتابة فشلنا فشلا ذريعا..
.
وحين رجعت بالفكر إلى سيرة أئمتنا المتقدمين، وعلمائنا السابقين، متفكرا في أسرار إبداعهم العلمي، وتفوّقهم البحثي، وتحكمهم التنظيمي، حضرني أن كثيرا منهم تعلم التأليف كما يتعلم العلم، وجلس يأخذ هذه الصناعة تلقّنا وتفهّما، وكان قعودهم ذاك على مقعد "الكاتب"، أو"الورّاق"..
.
على هذا المقعد جلس محمد بن سعد الزهري كاتبا للواقدي، وجلس عبد الله بن صالح المصري كاتبا لليث بن سعد، وهو مقعد اقتعده محمد بن أبي حاتم وراقا للبخاري، وجلسه مسلم بن الحجاج يؤلف صحيحه في بيت عبد بن حميد، واستمر الأمر على هذه السيرة الحميدة إلى زمن الحافظ ابن حجر الذي كان يورّق له فتى ذكي حافظ سيكون بعد سنين الحافظ السخاوي..
.
لقد جلس هؤلاء الأعلام يتعلمون من شيوخهم العلم، وتراتيب العلم، وينسخون لهم التأليف بعد التأليف وهم في ذلك يتشرّبون صناعة التأليف، وينظرون إلى صبر شيوخهم وجلدهم، فيتعلمون التمادي والمصابرة في وضع الأسفار الكبار وإنجاز الأعمال العظام..
.
لقد أفدنا من أساتذتنا جزاهم الله عنا خيرا طريقة إنجاز بحث، ولكننا فوّتنا على أنفسنا أن نتعلم منهم كيف نعيش حياة البحث، كيف نقسم أوقاتنا بين القراءة والكتابة، وكيف ندير المشاريع القصيرة والمشاريع الطويلة، وكيف نصارع الملل والشك وغيرهما من آفات الإنجاز، فهل لها من تلاف..؟
والله المستعان..
.