برايلُ البُصَرَاء..! . . حين اخترع لويس برايل طريقته في القراءة بتلمس نتوء مخصوصة على الورق، كان يدرك ما للمس من حس قوي في إدراك الأشياء، ولا بد أن تجاربه السابقة في الإدراك باللمس رشّحت عنده هذه الوسيلة ليحوّلها إلى عين ثانية. ولكنني أظن أن ما قاد برايل إلى هذا الاختراع ليس مجرد إمكان التعرف اللمسي، بل هو شيء أعمق من ذلك.. . وقبل أن أستمر فيما أردت قوله، أحب أن أذكر أن تجربة برايل كانت مسبوقة بتجربة قديمة ذكرها تقي الدين المقريزي أن بعض علماء زمانه كان يضع الكتاب تحت الثوب، ويمرر أنامله على الكتابة فيقرأ ما هو مكتوب، وهذه درجة عالية من دقة حس الأنامل لأن نتوء الحبر على الورق لا يكاد يدركه مدرك.. . ولكن من تأمل حال القراء الكبار المعروفين بشغف القراءة رأى أن علاقة الأنامل بالكتاب لم تنقطع يوما، فترى القارئ النهم منغمسا في قراءته، يتتبع الكلام بعينيه، وأنامه تتحسس أطراف الكتاب وتسترسل بلطف على صحائفه، فإذا وقف على عبارة معجبة وفقرة مؤنقة، رأيته يمسح عليها ويلاطفها، كأنه يجتهد في أن ترشف أنامله من حلاوتها مثل ما رشفت عيناه وعقله..! . وترى القارئ يتتبع بطرف أصبعه مواقع بصره، لا يريد أن يفوته من الكلام شيء، فهو يسوم منه اللفظ والحرف، كما يسوم المشتري الشحيح الفلس والدانق، يرى أن من فرّط في لطيف المعنى لم يكن أهلا لجليله، كما أن من فرّط في قليل الربح لم يصلح لكثيره. ويرى أن تحت كل كلمة فائدة كما يعتقد الحريص أن تحت كل حجر في سبيل الناس درهما، فهو لا يزال في تفتيش، كلما فاته حجر رجع إليه يقلبه..! . وتجد القارئ يدركه الملال، ويصيب عينيه النعاس أو الكلال، ولمّا يبلغ قلبه من الكتاب غايته، فلا يجد إلا أن يصافح صفحاته، ويعد أوراقه، ويعدل ما اعوج من تصفيفه، أو طوي من أطرافه، وتلك كلها صناعات الأنامل. وربّما دعاه فرط استيفاء لذته منه إلى أن يشَمّه كما تشَمّ الأم وليدها، ويضمّه كما يعانق المقيم الظاعن.. . حقا، إن البصراء لا يقلون حظا عن الأكِفَّاء في باب طلب المعاني بأطراف الأصابع، ولكنهم يطلبون بها معاني القلوب، التي هي قسيمة معاني العقول، ولذات الحس التي هي شقيقة لذات النفس، وهذه أمور من جنس التجربة لا من جنس النظر، فلا يعتب علينا القول من لم يذقه أو يَرَ من ذاقه، والله المعين.. .